بداية لا بد من توضيح القضايا التالية .
إن معاناة المسيحيين هي جزء من معاناة شعوب البلدان العربية دون تمييز، فرضها عليهم التأخر المجتمعي، والاستبداد في غياب الدولة التي غابت معها مفهوم المواطنة والمساواة، وجعل هذه المجتمعات هشة ومفككة في بنيتها وقابلة للانفجار في أية لحظة وبالتالي فالمعاناة ليست وليدة الربيع العربي بل هي معاناة شاملة.
إن نسبة مشاركة المسيحيين في أحداث الثورات العربية السلمية لم تقل عن نسبة الآخرين خاصة في مصر وكذلك في سورية.
إن نسبة المسيحيين الذين عانوا من العنف في بلدان الربيع العربي هي قليلة جداً، ولا تذكر قياساً بنسبة بقية الفئات الأخرى من حيث عدد الشهداء، والجرحى، والمعتقلين، والنازحين، والمهجرين الذين ملأوا بقاع الأرض بمن فيهم المهاجرين الذين اختاروا الهجرة للخارج هرباً من هذا العنف.
قصدنا هنا الحديث عن الأحداث التي طالت المسيحيين لأنهم مسيحيون، وعلى خلفية دينية، من قبل فئات إما فاسدة، حاولت استغلال الأحداث في عمليات الخطف والنهب، أو بقصد إثارة النعرات الدينية بين المواطنين، ودفع المسيحيون بتوجيه الاضطهاد لهم خارج عمليات العنف الأخرى.
أن ما عاناه المسيحيون خصوصاً، طالما أن الحديث يشملهم، يرجع إلى المرحلة السابقة، ونتيجة أخطاء تلك المرحلة، بينما الربيع العربي، بالشعارات التي حملها، كان المناسبة للخلاص منها على أساس بناء الدولة المدنية، دولة المواطنة المتساوية لكل مكوناتها في الحقوق الكاملة، والتي تخدم التوجهات العامة للمسيحيين في ظل النظام السياسي الديمقراطي التعددي. لكن ذلك لم يتحقق حتى الآن.
المسيحيون جزء من شعوب البلدان التي عاشوا ويعيشون فيها، لهم ما لغيرهم، وعليهم ما عليهم، دون أي تمييز رغم المضايقات الاجتماعية والقانونية التي تعرضوا ويتعرضون لها والتي تحجب عنهم المساواة التامة.
عندما نتحدث عن معاناة، فهذا لا يعني أننا في سفر برلك أو حروب تطال المسيحيين دون غيرهم، بل إن ما نشهده من حروب دمرت كل شيء، و طالت البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والمعنوية، فضلاً عن الأرواح، ودفعت الناس للهجرة التي شملت الجميع. لكن هذه الهجرة تبدو واضحة بالنسبة للمسيحيين بسبب قلة عددهم ونسبتهم من أصل السكان .
إن شعارات المواطنة، والوطن، والشعب الواحد، والدعوة للصمود والصبر والتشبث بالأرض، فلم تعد كافية أمام الأحداث الجسيمة التي تمر بها شعوب هذه البلدان ومنهم المسيحيين، طالما لا توفر لهم الحماية والأمان .في ظل تصاعد العنف، وتراجع المجتمع نحو مزيد من التأخر، الموصوف بالإرهاب، والعنف، والقلق، والخوف، والتوتر.
إن الأساس لهذا الإرهاب يكمن في الدساتير، والقوانين التي صاغتها الأنظمة الاستبدادية الحاكمة من وحي مصالحها واستمرارها في السلطة، تلك الدساتير التي تميز بين المواطنين وفق انتمائهم الديني والمذهبي، رغم النص على المساواة بينهم ، بينما يحظى المسلمون بشرعيات قانونية، لا تتوفر لغيرهم، تعززت بالممارسات الاجتماعية المتطرفة الكامنة في ثنايا المجتمع، على حساب المواطنة المتساوية. ولم يكن يكفي ما يتباهى به بعض المثقفين، بأن الفترة الماضية شهدت تجاهلاً لانتماءات الأفراد، بحيث لم يكن الواحد منهم يعرف دين أصدقائه، في محاولة منهم لتأكيد وحدة المجتمع واندماجه، لكن هذه الظاهرة وهي صحيحة بالطبع، بقيت فوقية، ولم تلامس وعي مجموع الناس العاديين الذين لم يستوعبوها وكان لهم موقف آخر .
- بعض القوانين والممارسات التي قصدناها هي.
- أغلبية البلدان العربية نصت في دساتيرها على:
- دين الدولة الإسلام، وهذا ما أفقد القوانين (العلمانية)، أي معنى لها عندما تصبح التشريعات الإسلامية هي الأساس، كثير من هذه التشريعات قد تبقى خامدة، ولا يجري التعامل معها، إلا أنه يمكن تطبيقها بحزم وقت ما يشاء أصحابها .
- – الفقه الإسلامي مصدر أساسي للتشريع وأحياناً (المصدر الأساسي). صحيح أن الفقه واسع وفضفاض، لكن النص عليه يمكن أن يخضع للانتقائية في التطبيق .
- دين رئيس الدولة (الجمهورية) الإسلام، بديهياً أيضاً فإن ذلك يشمل الملوك والأمراء الذين يأخذون السلطة بالوراثة، علماً أن هذا الشرط لا معنى له، إذ لا يمكن لأي مسيحي مهما بلغت كفاءته، أن ينجح لهذا المنصب بأغلبية الأصوات، لأن الفئات المسلمة في ضوء الحقيقة الراهنة، والواقع الاجتماعي، لن تصوت له أما قيمته المعنوية في أنه لا يحق لغير المسلم أن يترشح لها. والدليل أنه حتى على صعيد الانتخابات النيابية، ومجالس الشعب ومنذ استقلال هذه البلدان، يعجز أي من المرشحين غير المسلمين من الفوز بالانتخابات إذا لم تتدخل السلطة وتضيفهم للقوائم حسب نسبتهم في المناطق. وفي مصر سن قانون بإضافة 10 من الأقباط إلى هذه المجالس بعد ان عجزوا عن الفوز بالأصوات أسوة بالنساء.
- انعدام فكرة الأكثرية، والأقلية السياسية، وسيادة فكرة الأقليات الدينية والمذهبية، التي تكرس الانقسام في المجتمع تعززها فكر التسامح التي تتباهى بها بعض الفئات الإسلامية، وهي فكرة متعالية تجاه هذه الأقليات، وكأنهم مذنبون يستحقون التسامح، بدل العقاب وليسوا مواطنين لهم حقوقهم الكاملة دون منة أو شفقة من أحد .
- زواج المسلمة من غير المسلم باطل إلا أذا اسلم، بينما يحق للمسلم أن يتزوج المسيحية وتبقى على دينها، وكان هذا مصدراً للقلق الشديد والخوف والتوتر لدى المسيحيين في المناطق المختلطة، خاصة في مصر، حيث جرت حوادث عديدة بسبب هذه الظاهرة.
- منع دخول غير المسلمين ومنهم المسيحيين إلى مكة المكرمة وزيارة بعض الأماكن المقدسة رغم قدسيتها لديهم واعتزازهم بها .
- تحريم لمس القرآن الكريم إلا للمطهرين (لا يمسه إلا المطهرون)، رغم الاحترام الذي يكنه المسيحيون للقرآن، كجزء من ثقافتهم وشغف المثقفين منهم بقراءته وحفظ نصوصه.
- دور المثقفين والسياسيين المسيحيين في تبني المشروع القومي العربي، كحاضنة لأهداف الأمة في التحرر والنهضة، والذي لاقى قبولاً لدى أوساط إسلامية واسعة، لم يثلج صدر مجموعات أخرى، اعتبرته في مواجهة شعارهم (الإسلام هو الحل).
- المسيحيون لم يشكلوا لهم أحزاباً خاصة، عدا بعض الأحزاب اللبنانية، إنما وجدوا في الأحزاب الوطنية بتسمياتها المختلفة ،مجالهم للعمل السياسي.
- اللامبالاة وعدم الاكتراث لهجرة المسيحيين من المنطقة، التي تخفي في داخلها رغبة بتفريغها منهم، حتى تتوفر الحجة لتأسيس دول دينية على النمط الإيراني والطالباني واليهودية الإسرائيلية .
- لم تكن مثل هذه القضايا خلال المراحل السابقة تشكل هاجساً لدى المسيحيين، طالما أنها لا تمس مصالحهم المباشرة، لكنها لم تغب عن تفكيرهم أو تخفي قلقهم من المستقبل، خاصة وفي أذهانهم الممارسات التي حصلت ضدهم قبل سقوط الدولة العثمانية وبعدها من مجازر.
- لا شك أن المسيحيين كانوا يشعرون بنوع من التفوق على غيرهم بسبب تواصلهم مع الحضارة الغربية، قابلها لدى المسلمين شعور بالتفوق التاريخي وتأثيرهم على الحضارة الغربية، وهذه من الأخطاء التي وقع فيها الطرفان، إذ لا يمكن لفئة أن تتفوق على فئة أخرى، في مجتمع تسوده الإيديولوجية المتأخرة. فعلى صعيد الطوائف مثلاَ، كما أن للمسلمين طوائفهم، كذلك للمسيحيين، الذين توزعوا في 11 طائفة، كل منها لها كنائسها، وأديرتها، وأحياء سكنها المنفصلة عن بعضها، بحواجز كبيرة وكل منها تدعي التفوق على الأخرى، حتى أن بعضها كان يحرم الزواج من بقية الطوائف .
- مع تنامي النزعات الطائفية، والمذهبية، وتكريس التأخر المجتمعي، وتصاعد الإسلام السياسي المتطرف، الذي برز بعد الثورة الإسلامية الإيرانية، وما تلاها من أحداث، وظهور القاعدة، وطالبان التي شكلت مركز قوة لبعض الفئات الإسلامية، أصبح المسيحيون يشعرون بضغط القضايا التي ذكرت، ثم جاءت أحداث أيلول 2001 في أمريكا، واحتلالها لأفغانستان والعراق، حيث تعرض المسيحيون خلال تلك الفترة لكثير من المضايقات العنصرية، خاصة في مصر، بعد أحداث جماعة التكفير والهجرة، ثم في العراق خلال الاحتلال الأمريكي وبعده، وكان من أهدافها دفعهم للهجرة للاستيلاء على ممتلكاتهم ومنازلهم ومحالهم التجارية، خاصة محال بيع الخمور والألبسة النسائية التي تعرضت للتدمير والنهب، وتفيد الإحصائيات أن اكثر من 200 محل منها دمر في بغداد وحدها، وهاجر قسم كبير منهم لخارج العراق ولم يبقى منهم من أصل 1،5 مليون قبل الحصار، أكثر من 700 ألف. وفي الفترة نفسها تم استهداف الكنائس، ودور العبادة، كان أخرها الاعتداء على كنيسة النجاة في بغداد 31 / 10 / 2010 وذهب ضحيته عشرات الشهداء، على مرأى من القوات الحكومية. أما في مصر فقد تهمش دور الأقباط في الحياة العامة المصرية، ومنع بناء الكنائس أو ترميمها، كما جرت حوادث في الريف المصري ضدهم تعلقت بزواج مسيحيات من مسلمين رفضت الكنيسة السكوت عنه، وحصلت بنتيجتها مشاكل لا حصر لها، تكللت بتفجير كنيسة القديسين في الاسكندرية، في الساعات الأولى من عام 2011 راح ضحيته أيضا عشرات الشهداء والجرحى .
- معاناة المسيحيين في الأطراف المحيطة، انفصال جنوب السودان، الذي يتشكل سكانه من القبائل ونسبة كبيرة من المسيحيين، بعد حروب دامت 20 عاماً. وكذلك في الدول الأفريقية والجرائم الدينية التي حدثت على أيدي بوكو حرام واخواتها، قبل ثورات الربيع العربي واستمرت معها، والاضطهاد النسبي للمسيحيين في تركيا وماليزيا والباكستان وغيرها، وبدأت على خلفية هذه الأحداث تظهر فتاوى تحرم على المسلمين البيع والشراء او التعامل التجاري مع المسيحيين أو معايدتهم في أعيادهم وبعضها يحرم مصافحتهم، وتم التعرض للنساء بسبب لباسهم، والتمييز بينهم في الوظائف من قبل السلطات نفسها .
المسيحيون والربيع العربي
إذا كان عدد المسيحيين في تونس التي اشتعلت فيها أولى ثورات الربيع العربي قليلاً، فإن مشاركتهم في الأحداث التي جرت في مصر، كان واضحاً وفعالاً، مخالفين بذلك تعليمات الكنيسة بعدم المشاركة، وكان هدفهم كما هو هدف كل الشعب، إسقاط الاستبداد وبناء النظام الديمقراطي في دولة أساسها المواطنة المتساوية التي تعيد لهم حقوقهم، وتسارعت الأحداث في ليبيا واليمن وسورية والعراق، لكن تطور الأحداث باتجاه العنف واستخدام السلاح في معالجة هذه الأحداث، أدى إلى فقدان هذه الثورات بريقها، وتراجع تحقيق الحلم بالدولة المدنية، وتحولت إلى صراعات مسلحة بين الأنظمة والشعوب، أو بين القوى المسلحة نفسها، وانعدم الأمن، وزاد الفلتان الأمني، وانعدمت المسؤولية، وتصاعدت النزعات على كل الأصعدة، وأخذت الممارسات المتأخرة تضرب بقوة على الصعيدين السياسي والاجتماعي، وعمقت جذور التأخر بدل ان تقتلعه. وبقيت اغلبية المثقفين المسيحيين متمسكين بالتظاهرات السلمية، و بالشعارات الأولى للثورات، أملاً بالحصول على المطلوب، إلا أن مشاركتهم في هذه التظاهرات خفت، حتى قبل أن تفقد زخمها، خاصة بعد أن تعرض عدد كبير منهم للخطف للحصول على الفدية أو الخطف على الخلفية الدينية، حيث تعرض للخطف عدد من الشبان والطلاب على الطرقات العامة، ولا زال مصيرهم مجهولاً حتى اليوم، كما تعرض رجال الدين للخطف والقتل أبرزهم المطرانين يوحنا إبراهيم وبولس يازجي، وقتل الخوري ( فادي حداد ) من قطنا، الذي كان يتوسط للإفراج عن أحد المخطوفين وبعد تسليمه الفدية. وقتل عدد من الشباب والطلاب لأنهم من المسيحيين في المدن والسورية والعراقية دون أية حماية ،
ومع تصاعد العنف، وظهور داعش وأخواتها، تعرضت المناطق والأحياء في المدن التي تتواجد فيها نسب عالية من المسيحيين في حمص، وحماة، ومعلولا، ويبرود إلى التدمير، وكذلك الكنائس التي دمرت ونهبت محتوياتها، وإذا كانت مثل هذه الأعمال قد جرت بحق جميع فئات المجتمع السوري، إلا أنها من حيث النسبة في هذه الأحياء والمدن كانت عالية، وكل يبكي على موتاه .
لم تكن داعش صناعة هذه الجهة أو تلك كما يصفها البعض. إنها نتاج هذه المجتمعات، التي حملت في داخلها الإيديولوجية، التي تمارسها داعش وغيرها، والتي كانت كامنة في ثنايا وعي المجتمع، تظهر لها بعض الممارسات هنا وهناك خاصة في الريف المصري البعيد، وكانت تنتظر الفرصة المناسبة لتنطلق، لذلك، ومع احتلال الرقة، خيٌر المسيحيون بين قبول فرض الجزية أو الرحيل، كما فرض على النساء اللباس الشرعي ،وتحريم كل وسائل التسلية والترفي،ه دون اعتراضات أساسية من مجموع السكان. وهذا ما حدث في الموصل العراقية بعد ذلك حيث عرضت عليهم داعش عند احتلالها، إما الأسلمة أو الجزية أو الرحيل، وقد اختاروا الرحيل، وترك بيوتهم وممتلكاتهم، دون أن يسمح لهم بحمل أي شئ، شاعرين أن دفع الجزية يفقدهم مواطنتهم، ولا يوفر لهم ضمانات الأمان . وكانت المعارك الأخرى، التي جرت في المناطق التي تواجد فيها الآشوريون بالحسكة السورية حلقة أخرى من حلقات المعاناة في الحرب السورية، حيث تعرضت قراهم وبساتينهم رائعة الجمال، والتي كانت تزود الحسكة بالفواكه والخضار، وتعتبر متنفساً سياحياً ومناطق منتزهاتهم، للتدمير والنهب، وكذلك كنائسهم التي بنيت على الطراز الآشوري القديم، وأختطف منهم المئات ولازال مصيرهم مجهولاً .
كل هذه الأحداث دفعت بالمسيحيين للهجرة من بلدانهم هرباً من العنف، إلى أي مكان آمن يأويهم، ولم يبق منهم إلا العدد القليل الذي لا يزيد عن 5 %، ممن لم يجد حتى ألان فرصته لمثل هذه الهجرة ، لكنها أيضاً لا تقل عند الفئات الأخرى . علماً أن الهجرة هي أكبر معاناة، إذ لم يكن سهلاً على المرء، أن يقتلع من بيته وأرضه ومستقبله وأحلامه، ويلقى به في المجهول. ومع ذلك يمكن القول أن الميزة التي اتصف بها موقف المسيحيين، هي أنهم في البداية، رفضوا حمل السلاح بحجة الدفاع عن أنفسهم، كما حاول البعض توريطهم بالحروب الدائرة، وخيرأ فعلوا، وكانت لهذه الميزة، أن تجعل منهم وسطاء لإيجاد حلول سياسية للأحداث، في الحروب المجنونة التي دفعت إليها الأنظمة، والقوى المسلحة، التي أزاحت الثورات السلمية وحلت مكانها، لكنه في الفترة الأخيرة أخذت تتشكل لهم ميليشيات مسلحة رمزية ،بدأت تظهر بشكل علني في العراق وسورية، قد لا تكون لها تأثيرات تذكر لكنها ستزيد من المعاناة التي هم فيها .
لقد حاولنا على مدى عشر سنوات، ومن خلال لجنة كنا قد شكلناها هنا، لمواجهة هجرة المسيحيين، للتنبيه لمخاطر هذه الهجرة على المنطقة، في محاولة للتخفيف منها دون نتائج تذكر، فكيف لنا أن نفعل الآن.