إلى السيّد رضوان السّيّد : الخليج لا يحتاج إلى قرضاوي آخر
الجمعة 25 نيسان (أبريل) 2014
طالعتنا جريدة الشـــــرق الأوسط في عددها الصادر يوم 18 أبريل 2014 بمقالة للأستاذ رضوان السيّد تحت عنوان “الحملة على الإسلام.. والحملة على العرب”، يهاجم فيها كوكبة من المفكرين العرب، وهم الأساتذة جورج طرابيشي و عزيز العظمة وعبد المجيد الشرفي والمرحوم محمد أركون.
ورغم عدم التمـــاسك الداخلـــي للمقالة، وهــــي سمة مشتركة لأكثر كتّاب المقـــالة اليوميّة، فإنّ الاتهامات الّتي وردت فيها ضدّ هؤلاء المفكرين كانت صـادمة بسبب فبركتهـــا لوقائع مجافية للواقع. وهذا ما أدهش القرّاء الّذين كانوا يأخذون مقالات المناضل السياسي رضوان السيّد على مأخذ الجدّ.
ولنتنــاول هذه التّهم الّتـــي ساقها من هذا المقـــال دون أن يكلف نفسه عنـــاء الإتيان بقرينة واحدة للبرهنة على حدوثها وإثبات صحّتها تهمة تهمة، حتّى لا نقول فرية فرية.
يتهم الكاتب الصحفي رضـــــــوان السيّد هؤلاء المفكـــرين بأنّهم جندوا أنفسهم لهدم الإسلام السنّي التكفيريّ لمصلحة الإسلام الشيعي والانتصار للإيرانيّين وحلفائهم وتنظيماتهم المسلحة فــــي كل من العراق وسوريــا واليمن والبحرين. إنّ إطلاق هذه التّهم في حقيقتها جريمة قذف وتشهير مكتملة الأركان من الناحية الجنائية. أمّا من الناحية الفكرية فهي تدل، بافتراض حسن النّوايا، إمّا علــى عدم القدرة على فهم ما كتبه هؤلاء، أو تدلّ على محاولة ليّ عنق الحقيقة لمصلحة عاجلة، القصد منها التقرب إلى هيكل العجل الذهبي للسيـاسة بقرابينِ أسماءٍ فذّة امتنعت عن أن تشرك بوحدانية الحقيقة من أجل مغريات الأباطيل.
أمّا من الناحية الواقعية، فإنّني أتحدّى الكاتب، وعلـى رؤوس الأشهاد، أن يثبت ما يقوله عن “عزيز العظمة” و “جـورج طرابيشي” و“عبد المجيد الشرفـــي”، من أنّهم انتصروا لأي طائفة ضدّ طائفة أخرى أو كتبوا أو حاضروا فـي تمجيد الطوائف سواء أكـانت شيعيّة أم سنيّة أم خارجيّة، أو حتّــى أدلوا بحديث صحفي أو مقابلة تلفزيونية يُشتمّ منها ولوغهم في مثل هذه الفعلة.
أمّا اتهام الرّاحل الكبير “محمد أركون” بأنّه سخّر قلمه لتحطيم الإسلام السنّي فهذا ما لم يستطع قوله حتّى القرضــــاوي. وإنّ قراءة محمد أركــــون تحتاج إلــــى جدّ وصبر لا يمكن أن يتحققا بمجرد الاطــلاع على عناوين فصول كتبه خلال فترات الاستراحة القصيرة للمؤتمرات.
إنّ محمد أركــــــون كان يريد تفكيك التراث، لا تحطيمه، من أجل إســــلام أجمل ومن أجل مسلمين متصالحين مع عصرهم ومع تاريخهم. إنّه كـــان ينادي بالخروج عن الوثنية المتمثلة في عبادة الأسلاف، وبالرجوع إلى النّص القرآني وينابيعه الصافية لاستنطاقه وتأويله حتّى يكون لدينا فقه عصري جديد ينقذ المسلم من وضعيته التعيسة الّتي يعيش فيها، بحيث يُدرَّس فقه الفقهــاء العمالقة الأوّلين باعتباره تاريخا للفقه، لا باعتباره “الفقه” بألف ولام التعريف كما يحدث الآن.
إنّ سوريا اليوم ولبنان معرضتان للتشظي والانقسام إلى دويلات طائفية بسبب عدم القدرة على ولوج الحداثة وعلى نبذ الطائفية الّتي يغذّيها الفقه القديم فـــي كلّ المذاهب. إنّ أركون قد رأى كلّ ذلك تنبؤاً. أمّا صاحب المقال فلا يرى ذلك الواقع رغم أنّه يعايشه.
ثمّ يقول الكاتب: “خرج علينــا قبل الثورات وبعدها فريقٌ تنويري يريد اجتراح إصلاح ديني، يشبه تماما ما فعله الأوروبيون مــع تراثهم الدينــي في القرنين الثــامن عشر والتاسع عشر. ولذلك انصرف عشراتٌ من هؤلاء لاصطناع قــراءات تنويرية وتحريرية للقرآن والســـنة، والتيارات الفكرية والدينية السلفية والأشعرية، والخروج، بعد كتبٍ ممتدةٍ، إلى أنهم تمكنوا من تحطيم الإسلام السني. وكــــانوا، في زمن العسكريين والأمنيين الطويل، يحصلون على جوائز منهم بسبب العقــــلانية التي اشتهر بها حافظ الأسد و بشــــار الأسد ومعمر القذافي. وهم يجدون اليوم وسط المخاضـــات الفظيعة التــــي دخل فيها الجهـــاديون الحزبيون فُرَصا جمةً للإشادة من جديد بالتنويــــر الذي عليه الأسد وصدّام قبله، وإيرانيو الخميني ونصر الله من بعد”.
إنّني آسف لكاتب في حجم رضــوان السيّد كيف يطلق كلاما على عواهنه بهذه الخفّة المرسلة. فهذه الفقرة من مقاله لا تصلح حتّى أن تكون جزءا من تقرير لمخبر نزق تدفعه الغيرة أو الكراهية إلى الوشاية أملا في أن يرى رأس غريمه يتدحرج من منصة مقصلة.
إنّني أرد على الكـــاتب بمجموعة من الأسئلة يجب أن يجيب عنها بالوقائع والبراهين الدامغة حتّى يدافع عمّا تبقى من مصداقيته :
1- متى ذهب أيٌ من هؤلاء المفكرين إلى إيران ومتى اجتمعوا بالمرشد الأعلى؟
2- متى التقى أحد هؤلاء المفكّرين بمعمّر القذافي أو ببشّار الأسد أو صدام حسين أو حافظ الأسد؟
3- متى حصل أيّ من هؤلاء على جوائز من أولئك الحكّام؟ وأين؟ وفي أيّ تـــــــــاريخ؟
4- في أيّ مطبوعة قرأت أنّ هؤلاء المفكرين أشادوا بحسن نصر الله أو حزب الله، حتى عندما كان في أعلى درجات شعبيته، وعندما كنتم تطلقون عليه لقب “سيد المقاومة”؟
5- متى وأين قرأت أن أحد هؤلاء الكتّاب أيّد مذابح بشّار في سوريا أو مدح فظائع نظامه؟
أمّا قولك إنّ هؤلاء المفكّرين قد كوّنوا فريقاً يهدف إلى اجتراح إصلاح دينيّ كالذي حدث في أوروبّا، فهو صحيح ولك كلّ الحقّ في أن تنتقد هذا المسلك ما دمت ترى أنّه ليس في الامكان أبدع مما كان، أي أبدع من الفكر التكفيري الّذي تدافع عنه في مقالك باعتباره جوهر العقيدة السنّية والأس الأساس للنهضة في العالميـن العربي والاسلامي، وما دمت ترى أنّ التراث الموروث من العصر الوسيط يحمل في أضابيره كافة الحلول الناجعة لإكراهــــات الحياة المعاصرة ومشاكلها.
إنّ المفكرين التنويريين الّذين قلت فيهم كل هذه الشتائم ودبّجت في حقّهم بقلمك كلّ هذه الأباطيل هم أكبر من أن ينخرطوا في حرب طائفية مقرفة لن تكون لها غير نهاية مدمرة للأوطان والمجتمعات. من حقّك أن تكون أحد الفرسان المغاوير في هذه الحرب، ولكن ليس من حقّك جرجرة الآخرين إلى خوض غمارهــا.
ويبقى سؤال قلق يحوم حول هذا الكمّ الهائل من الادعاءات الباطلة والأخبار الكاذبة ويبحث عن إجابة :
لماذا هذا الهجوم الشّرس على مفكرين يعرفهم الكـــــــاتب حقّ المعرفة، ويعرف أنّهم لم ولن يقوموا بما اتّهمهم به، ويعرف أنّهم ما كانوا في يوم من الأيّام أبواقا لأحد، ولم يبذلوا ما بذلوه من جهد خوفا من وعيد أو طمعا في وعد؛ وحتّى عندما تغيّرت آراؤهم ومواقفهم من الايديولوجيــــــــــات المختلفة كان ذلك بفعل نقد ذاتي استعملوا فيه العقول لا البطون؟
إنّ هؤلاء المفكرين ومن على شاكلتهم قد نَأَوْا بأنفسهم عن دوامة الحقد والكراهية، واعتبروا أنّ مسؤولياتهم التــــــــاريخية الجسيمة تحتّم عليهم تضميد الجراح ورسم خارطة طريق للمستقبل بعد أن تضع هذه الحروب الطائفية أوزارها ، فأمعنوا في نقد البنى الفكريّة والاجتماعيّة السّائدة من أجل بناء أوطان للأجيال القادمة الّتـــي لن تعرف دولة الإنسان المؤمن بل دولة الإنسان المواطن، وذلك إذا ما كتب لهذه الأوطان البقاء.
إنّ الفكر التكفيـري الّذي تدافع عنه هو المؤسس والمبرر العقدي للإرهاب. وإنّ التكفيريين السّنة لا يقتلون أهل الأديان والنحل والملل والمــــــــذاهب الأخرى فقط ، بل هم طائفة داخل الطائفة السّنية يقتلـــون السّنة الصوفية والسّنة الشعبية، وكلّ من اعتبروه فاسقا أو ملحدا أو كافرا.
فهنيأ لك أنت والقرضاوي بهذه الصحبة الجديدة الّتي تخلط بين الدّين والسياسة، وبين الدولة والطائفة ، وبين فكرة دولة المواطنة ودولة الإيمان.
وعندما قرأت المقال للمرّة الثانية استوقفتني كلماته الاستهلالية وأنقلها حرفيا : “لا يكاد يمر أسبوع إلاّ ونشهد أحد احتفالين أو الاحتفاليـــــن معا : احتفال بالحملة على الإســــلام المتشدد والتكفيري والإرهابـي، واحتفالٌ آخر بمفكر «تنويري» عربي ما ترك على جسد الإسلام الظلامي والتكفيري لحما ولا شحمــا”.
إذا علم القارئ أنّه، في يوم 5 من هذا الشهر ومن هذه السّنة، أقيم بتونس حفل تكريمــــي للمفكر العربــي جورج طرابيشي، بطُل العجب دون حاجة إلى استدعاء رجب كشهر أو رجب أردوغان.
إنّ هذا الحفل الّذي أقامه عدد من المثقفين من مختلف الأقطار العربيّة احتفـاء بجــــورج طرابيشـــي وعرفانا له لما بذله من جهد فكري وثقافي كتابة وترجمة ونقدا فـي تاريخ العرب الحديث، كان هو القادح على هذه الحملة. فربّما اعتملت الغيرة في صدر صاحبنا، فأخذ يخبط خبط عشواء، وطاشت أسهم حنقه غيظا، فأصابت الأحياء والأموات. وإلاّ فبم نفسّر كلّ هذا الهراء؟
إنّ رابطة العقلانيين العرب كرّمت جورج طرابيشي لا فقط لأنّه يحــارب الاسلام السّلفـي التكّفيري وله الفخر في ذلك، بل لأنّ له تاريخا في البحث والنقد والترجمة والتأليف يمتدّ على نحو مائتي كتاب. وكان من حقّك يا رضوان أن تهاجمنا لو أنّنا قمنا بتكريمه لأنّه حضر ألــــف مؤتمر أو أضاع عمره في المشافهة والنجومية الكاذبة أو انتفخت جيوبه و امتلأت حســــاباته من المقاصد الشيعية أو المسيحية أو السنيّة أو غير ذلك.
وأخيرا، نناشدك، إذا كانت لا تزال لديك مساحة للتّفكير لم يستغرقها التّكفير، أن تبتعد بحمولتك الطّائفيّة التّكفيريّة عن دول الخليج وعلى الأخصّ دولة الإمارات العربيّة المتّحدة التي أراك كثيرا ما تتردّد عليها، بعد أن أوشكتم على تدمير أرض الشّام، وساهمتم مع الأصوليّات الطّائفيّة الأخرى في تشظّيها. لسنا في حاجة إلى قرضاوي آخر يثير الفتن، ويحقّق وحدة الحقد والكراهية للأمّة السّنّيّة.