لماذا كُتِب هذا المقال؟ بعد استطلاع بسيط طُرح فيه سؤالاً: من هي نازك العابد السورية ؟، ما تعرفونه من معلومات عن نازك العابد؟، كانت الإجابات صادمة؛ إذ عرفها قلة كبطلة وطنية شاركت الشهيد يوسف العظمة في ميسلون، بينما بدت مجهولة لدى الأغلبية. هذا الغياب اللافت عن الذاكرة الجماعية دفعني للبحث في المصادر المتاحة، حيث وجدت مواداً تتناول جوانب من حياتها، لكنها كانت متناثرة كشذراتٍ مجزأة، لا ترسم صورة شاملة لشخصيتها ومكانتها. انطلاقاً من هذه الفجوة، جاء هذا المقال لتوحيد رواية سيرتها، وإعادة تقديمها كرمز وطني وثقافي يجسد قيم الحرية والنضال. الهدف ليس فقط تسليط الضوء على بطولاتها، بل أيضاً الحفاظ على إرثها حياً، خاصة بين الأجيال السورية التي تشكلت ذاكرتها في ظل سنوات حكم النظام الاستبدادي الذي أخفى تاريخ القامات الوطنية كي يكون الحاكم هو بطل تاريخ سوريا بلا منازع، ولهذا السبب يجب علينا أن نعيد ما أخفاه المستبد إلى واجهة الذاكرة الوطنية، لا سيما في ظل ظروف الاغتراب التي تعيشها أجيال سورية عديدة.
قصة نازك العابد: أيقونةٌ سوريةٌ مٌتعددةُ المناقب
ولدت “نازك العابد Nazik Al-Abed“ عام 1887 في دمشق، وسط بيئة سياسية واجتماعية تعِجُّ بالتغيرات. شهدت تلك الحقبة أواخر الدولة العثمانية التي كانت تعاني من تفكك داخلي وضغوط خارجية، في ظل تنامي حركات التحرر والاستقلال في العالم العربي. وجدت نازك نفسها في عائلة ثرية ومثقفة، مما أتاح لها فرصة التعليم المبكر والانخراط في قضايا مجتمعية كبرى. ولكنها لم تكتف بالامتيازات التي قدمتها لها طبقتها الاجتماعية، بل كانت مبدعة متألّقة في مجالات الأدب والصحافة والتاريخ. حملت لواء النضال من أجل المرأة والوطن، والأنشطة الخيرية لتصبح واحدة من أبرز الشخصيات النسائية في تاريخ سوريا.
طفولتها ونشأتها
نشأت نازك في كنف عائلة دمشقية أرستقراطية، وكان والدها “مصطفى باشا العابد” سياسياً ورجل أعمال بارزاً، شغل مناصب مهمة في الدولة العثمانية، (وليس عبد القادر العابد الذي نُسِبَت إليه في بعض المراجع والمقالات خطأً). وكانت والدتها السيدة “فريدة الجلاد” وهي من النخبة المتنورة من نساء المجتمع الدمشقي.
وفقًا للباحثة “ليندا شاتكوفيسكي شيلشر ” في كتابها Families in Politics: Damascene Factions and Estates of the 18th and 19th Centuries، الذي أدرجت فيه نسب عائلة العابد بقولها:
“يسلم مؤرخ الأسرة في يومنا هذا بما أجمعت عليه المصادر في القرن التاسع عشر من أن آل العابد ينحدرون من عشيرة الموالي. وأن جَدّهم (السلف) محمد الذي استوطن الميدان عام 1700/1701، كان ابن قانص العابد أحد أمراء عرب المشارفة (المتفرعين عن الموالي) الذين ينتهي نسبهم إلى بكر بن وائل.
وفرت هذه البيئة لنازك فرصة نادرة في ذلك الوقت لتلقي تعليم خاص من قبل نخبة من المعلمين بعد أنْ أظهرت نازك منذ صغرها شغفاً بالقراءة والكتابة. كانت محصلتها المعرفيَّة غنيّة ومتنوعة، حيث درست خمس لغات بإتقان، وقرأت كلّ ما توفر لها من كتب الأدب والفنّ والتاريخ. واشتهرت بين معارفها بأنها تمتلك “روحاً ثائرة وقلباً ينبض بالعدل“.
لم تكُن سيرورة نازك خالية من التحديات، فقد واجهت انتقادات من بعض الذكوريين المتزمتين بسبب انخراطها المُبكر في قضايا يعتبرها المجتمع، آنذاك، حكراً على الرجال. وكان ردها عليهم بقولها:
“إذا كانت المرأة هي نصف المجتمع، فكيف يمكن أن تنهض الأمة وهي مكبلة بقيود الجهل والتقاليد؟”.
النفي إلى إزمير: تحديات وصقل الهوية
في عام 1909، وبعد خلع السلطان عبد الحميد الثاني وصعود جمعية الاتحاد والترقي، نُفيَت أسرة نازك إلى إزمير ضمن موجة استهدفت العائلات القريبة من النظام القديم. كان لهذا النفي تأثير عميق على نازك، حيث عايشت تجربة الغربة التي أكسبتها نظرة أعمق للحياة والسياسة.
في إزمير، واصلت نازك تعليمها، ودَرَست الزراعة في كلية روبرت الأمريكية، وهي جامعة إسطنبول الأمريكية التي كانت تُعرف أيضاً بجامعة البوسفور. كما دأبت التعمق في دراسة الأدب والفنون الأوروبية، مما عزز رؤيتها الفكرية. كتبت نازك العابد مقالاً بعد عزل السلطان عبد الحميد الثاني ووفاته، تصف فيه حفل تأبينه الذي تصادف أثناء وجودها في إسطنبول في فترة نفي العائلة في إزمير.
“تركتُ أزمير مع والدتي وقد كانت منفى عائلتنا برخصة جاء بها علينا طلعت باشا وسرنا إلى الأستانة لقضاء بضعة أسابيع فصادف وصولنا في أيام عبد الحميد الأخيرة فتسنى لي أن أشهد حفلة الدفن التي لم تشهد أهالي الأستانة السابقون والمعاصرون على زعمهم حفلة مثلها فكأن الاتحاديين شاءوا أن يكفروا عن إساءتهم لهذا الرجل فعَوّضوا عليه وهو ميت بكل الإكرام الذي سلبوه منه وهو حي، إذ تقدم المركب البوليس ثم الجند النظامي ….”
ثم وصفت نازك -رغم أنها ما زالت في مقتبل الشباب- بصياغة أدبية رفيعة المستوى مراسم العرض العسكري الذي رافق جثمان السلطان المخلوع عن عرشه.
وفي تلك الفترة، بدأت تكتب عن قضايا المرأة، وقالت في باكورة مقالاتها:
“المرأة ليست مجرد أم وزوجة؛ هي شريكة في بناء المجتمع، ولا يكتمل استقلال الأمة إلا بتحرر نسائها”.
نازك في المنفى
نفيت نازك إلى إزمير مع أفراد أسرتها، بعد خلع السلطان عبد الحميد عن العرش، ودَرَست الزراعة في كلية روبرت الأمريكية، وهي جامعة إسطنبول الأمريكية التي كانت تُعرف أيضاً بجامعة البوسفور. عند عودتها إلى سوريا مع زوال الحكم العثماني. اشتركت مع الأديبة ماري عجمي في تأسيس جمعية “نور الفيحاء” التي أطلقتها نازك من بيت أسرتها بدمشق. هدفت الجمعية إلى تشجيع النساء على تعلّم صنعة تناسب النساء لتحريرهن من قيد الرجال، وأوجدت لهن مشغلاً في الغوطة الشرقية لتطوير مهارات التطريز والخياطة وحياكة السجّاد. وقد رصدت أرباحها لصالح النشاطات الخيرية.
منحة للدراسة في أمريكا
في عام 1922، حصلت نازك على منحة لدراسة العلوم الاجتماعية في الولايات المتحدة، حيث تعمقت في دراسة قضايا المرأة وحقوق الإنسان. ساعدتها هذه التجربة في توسيع آفاقها ورسم خطط جديدة لخدمة وطنها. كتبت في رسالة إلى أحد أصدقائها:
“أمريكا علمتني أن الكفاح من أجل العدالة ليس قضية وطن واحد، بل مسؤولية إنسانية مشتركة”.
وفي إحدى المناسبات عبرت عن تأثرها في اكتساب المزيد من الخبرة والمعرفة آنذاك قائلة:
“التغيير لا يكون إلا برفض التأقلم”
“ماضينا كما يُقدَّم لنا ليس أحداثاً وَقَعَت في زمنٍ انقضى، بل هو مجموعة عناصر تجمّعت من أزمنة فائتة ولا تزال حيّةً وتتحكم بحاضرنا والتي تعيقنا أحياناً عن التطلّع إلى مستقبل مختلف. نسعى باستمرار، كأكبر مؤسسة إعلامية مستقلة في المنطقة، إلى كسر حلقة هيمنة الأسلاف وتقديم تاريخنا وتراثنا بعين لا تخاف من نقد ما اختُلِق من روايات و”وقائع”. لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا / رحلتنا في إحداث الفرق. ساعدونا. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا”.
نازك في عهد الملك فيصل (1918-1920)
مع سقوط الحكم العثماني وتأسيس المملكة السورية بقيادة الملك فيصل بن الحسين (1918-1920)، استمرت نازك بعد عودتها إلى دمشق بممارسة نشاطها السياسي والاجتماعي، وكانت أكثر عزماً على تحقيق أهدافها. وقد لفتت مواقف ونشاط هذه المناضلة نظر الملك فيصل، فقام بمنحها رسمياً لقب جنرال فخري. مع أنها حازت على رتبة نقيب في الجيش السوري. وبذلك أصبحت نازك أول امرأة تدخل الجيش السوري.
كانت نازك في هذه الفترة من نشاطها تقدم للوطن أهم إنجازاتها:
- أسست مدرسة مخصصة لبنات الشهداء في طريق الصالحية، حيث قُدمّت أرضها مجاناً من قبل حاكم سوريا الجديد، الملك فيصل بن الحسين، مع معونة حكومية بقيمة 75 دينار شهرياً. حققت جمعية نور الفيحاء نجاحاً باهراً في عامها الأول.
- في شباط 1920، أطلقت الجمعية مجلّة شهرية حملت اسم “نور الفيحاء“، تولّت نازك رئاسة تحريرها مستلهمة ذلك من تجربة رفيقة نضالها “ماري عجمي” التي سبقتها بإصدار مجلة “العروس” قبيل الحرب العالمية الأولى سنة 1910.
نبذة عن مجلة نور الفيحاء هي مجلة نسائية، أخلاقية، أدبية، صدر منها ثمانية أعداد فقط، وقد توقفت عن الصدور بعد دخول الانتداب الفرنسي إلى دمشق بوقت قصير حيث أغلقت بسبب مناهضة نازك العابد وأعضاء جمعيتها لسلطة الانتداب. صدر العدد الأول منها في كانون الثاني 1920، وصدر العدد السادس (اليتيم) الذي مازلنا نتناقله -حتى اليوم - في 15 حزيران سنة 1920. وللأسف فُقِدت معظم أعدادها، هذا العدد الوحيد الموجود في دمشق، بينما عُرِضت ثلاثة أعداد أخرى نادرة في مكتبة جامعة هارفارد.
- وبعدها أسست نازك فرقة “النجمة الحمراء“. وعند إعداد حفلة تتويج الأمير فيصل ملكاً على سوريا يوم 8 آذار/مارس 1920، طلبت أن يُخصص جناحاً خاصاً لها ولرفيقاتها في سينما زهرة دمشق المجاورة لدار البلدية بساحة المرجة، ليتمكن الملك مشاهدة فقرة من الحفل قدمتها جمعية نور الفيحاء وفرقة النجمة الحمراء.
وقد ركزت في هذه الفترة على قضايا تحرير المرأة السورية، وفي إحدى خطاباتها قالت:
“لا يكفي أن نُعلي أصواتنا للمطالبة بالاستقلال الوطني؛ يجب أن نناضل أيضاً من أجل استقلال المرأة، فهو الأساس لبناء أمة قوية ومستقلة”.
خطاب استشرافي في وجه المشروع الصهيوني
في عام 1938، تلقت الناشطة السورية نازك العابد دعوة من رائدة الحركة النسائية المصرية هدى شعراوي لحضور المؤتمر النسائي العربي في القاهرة كممثلة عن النساء السوريات. كان المؤتمر فرصة لعرض القضايا الكبرى التي تشغل العالم العربي، وألقت نازك خطاباً حاز اهتمام الحضور، لما جاء فيه من رؤى استشرافية حول القضية الفلسطينية تحت الانتداب البريطاني.
في خطابها، أظهرت العابد إدراكاً عميقاً لتحركات الصهاينة القادمين من الشتات إلى فلسطين، ورصدت تصريحاتهم السياسية التي كانت تشير بوضوح إلى مخططهم لإنشاء “وطن قومي” لليهود. كما تتبعت بعناية مواقف الدول الغربية، وقارنتها بتصريحات القيادات الفلسطينية البارزة، مثل المفتي الشيخ أمين الحسيني والمطران حجار التي أدلوا بها أمام لجنة بيل والجهات المعنية بالوضع في فلسطين.
نقتبس أهمَّ ما قالته في خطابها الموجه للجمهور المصري أثناء تلك المناسبة عام 1938:
“أجل نتألم وإن كان القتيل صهيونياً، مع علم منا أن الصهيوني يريد إجلاءنا عن ديارنا ويريدها له، دون غيره، وأن يطلق عليها “أرض إسرائيل” وأن يقيم بها حكومة يهودية لغتها عبرانية وثقافتها إسرائيلية لا نقول هذا جزافاً، بل إن لجنة بيل الملكيَّة لخصت مطالبيهم في تقريرها الذي رفعته بالسنة الفائتة لجلالة الملك فجاء في جملة اقتراحاتهم أن لا تتخذ أية إجراءات لمنع اليهود من أن يصبحوا أكثرية ومتى تم ذلك يجب أن لا تمنع فلسطين من أن تصبح يهودية.” وقد أجمل الدكتور وايزمن هذه المطامع فقال أمام اللجنة “نريد أن تصبح فلسطين يهودية كما أن إنكلترا إنكليزية!”
“إن هؤلاء الناس إذا تمكنوا من فلسطين، قضوا بما لديهم من دهاء ومال وعلم على العروبة وأمانيها. والعروبة لا تزال يانعة والتاريخ ما يزال طافحاً في الأمثلة على دهائهم وإن ينسَ العرب فلا ينسون سياسة التفريق التي انتهبوها في المدينة بين الأوس والخزرج سياسة حكمتهم برقابهم حتى أنقذهم الإسلام”.
“سيداتي، لسنا نناضل عن كل هذا فحسب، بل إننا نكافح في سبيل الحياة والحياة في هذا العصر. حريتها واستقلالها ونعيمها ورخائها كل ذلك يتوقف على الثروة. وأي نجاح اقتصادي ننتظر إذا قامت دولة إسرائيل في قلب البلاد العربية. وكأني بمصر، وقد وصلت إلى أعلى ذروة من ذرى الدور الصناعي وأخذت تلج في الدور الزراعي الصناعي، وأوشكت أن تدخل في الدور الثالث وهو الصناعي التجاري كأني بها أشد الأمصار تعرضاً للخطر الصهيوني. أجل فإن مشاريع مصر العظيمة وسياسة طلعت باشا الحميدة توشك هذه كلها أن تصطدم بمشاريع تستند إلى رساميل أعظم وسياسة تتوكأ على دهاء أشد إذا استتب للصهيونيين الأمر بفلسطين قَوَوا على اقتصاديات مصر وأعادوا الدور الذي مثلوه عهد الخديوي إسماعيل. سيداتي إذا استعرضنا كل هذا أدركنا لماذا اختار شباب فلسطين وكهول فلسطين ونساء فلسطين الموت للحياة”.
تنبؤات نازك تتحقق بعد عقد
ما أوردته نازك في خطابها كان قراءة استشرافية تنبؤ بما ستشهده المنطقة. فقد جاءت نكبة فلسطين عام 1948 لتؤكد صحة مخاوفها وتحليلاتها، ما يبرز ذكاءها السياسي وقدرتها الفريدة على استشراف أحداث المستقبل.
نازك في قلب معركة ميسلون
في 24 يوليو 1920، خرج أهالي دمشق في وداع قوات الجيش السوري المتجهة إلى طريق ميسلون لمواجهة غزو الجيش الفرنسي بقيادة وزير الحربية -آنذاك- “يوسف العظمة“. كانت تمشي مجاورة له صبيَّة دمشقية جميلة اسمها “نازك العابد” بعد أنْ خلعت الملاية واستبدلتها ببذةٍ عسكريةٍ، تحمل على كتفها البندقية. ولأنها لم تكن مدربة على القتال، أوكل لها يوسف العظمة مهمة “رئيسة لفرقة النجمة الحمراء” التابعة لوزارة الحربية والمعنيّة بإسعاف جرحى الحرب.
في موكب وداع الأبطال المقاتلين، عندما رأوا “نازك” بينهم، أثار هذا المشهد دهشة الجنود والأهالي، فصرخ أحدهم في صوت جهور:
“إذا كانت النساء مثل نازك يقفن معنا في الميدان، فكيف يمكن أن نخشى عدواً مهما كانت قوته؟”.
ولكن على المقلب الآخر أثار ظهور نازك بين الجنود المتطوعين فئةً من بعض الأهالي المتشددين المودعين، قالوا إن مكانها كامرأة يجب أن يكون في المنزل وليس في الشارع مع الرجال. ردت عليهم نازك بقولها:
إني اتخذت من نساء الرسول قدوة، اللواتي شاركن في معارك الإسلام.
ثم رددت عبارتها الشهيرة:
“أنا ذاهبة إلى جهاد مقدس، وليس إلى مرقص”.
ولما أصيب القائد “يوسف العظمة” بطلقة نارية فرنسية، وهو يقاتل في مقدمة الجنود، هرعت إليه نازك جاهدةً إسعافه، ولسوء الحظ، كانت إصابته بليغة حيث قضى الله باستشهاده. ومنذ ذلك التاريخ أصبحت شخصية نازك العابد رمزاً لبطولة المرأة السورية.
نازك ومواجهة الاحتلال الفرنسي
بعد معركة ميسلون عاقبها الفرنسيون بالنفي إلى إسطنبول لمدة عامين. وبعد انتهاء المدَّة، عادت إلى دمشق مُصِرّةً على متابعة نضالها ضد الاحتلال الفرنسي. لكنَّ الفرنسيين شعروا بخطر هذه المرأة، فأعادوا نفيها مرّةً ثانيةً إلى الأردن. بيد أنها استطاعت العودة إلى دمشق بعد أن تعهدّت لهم – ظاهرياً- باعتزال العمل السياسي. ولكنَّها لم تبتعد عن الحراك الوطني حيث بدأت الجهاد السري في مجابهة الفرنسيين متخذةً غوطة دمشق مقراً لها متخفيةً عن الأنظار.
شبهها البعض بالشاعرة والمقاتلة “خولة بنت الأزور“، وتأثّرت الكاتبة البريطانية “روزيتا فوربس” بقصة بطولة نازك التي ألهمتها بكتابة رواية عن حياة العابد بعنوان “Quest: The Story of Anne“، صدرت في لندن بعد أقل من سنتين على معركة ميسلون.
نازك السورية اللبنانية
شاءت الأقدار أن تقضي آخر أيامها في بيروت متابعة نضالها الدؤوب بلا هوادة. وقد حدث أثناء مشاركتها إحدى جلسات المؤتمر السوري للثورة عام 1925 في دمشق، أن تتعرف لأول مرة على المؤرخ اللبناني محمد جميل بيهم (1887-1978) الذي يُعَد من رواد النهضة الفكرية التنويرية، وعرف بإيمانه ومناصرته لقضايا المرأة ودعوته لتحررها.
في تلك الفترة لم يكن موضوع زواجها يحتل الأولية، بل كانت عواطفها خاضعة لعقلها وإدراكها المتطور عن بنات جيلها. كانت تتصرف كما تفكر تماماً، إذ طالما طالبت الرجال أن يختاروا شريكات حقيقيات، والنساء أن تُطالبْنَ بحقوقهن، كما تشهد مقالاتها وخطاباتها على ذلك. كانت تنتظر بتأني لاختيار شريك حقيقي في النضال من أجل ما تؤمن به من قيم وقضايا إنسانية ووطنية وعلى رأسها قضية المرأة لذلك تأخرت في موضوع الزواج حتى عام 1929 لتختار نصير المرأة اللبناني محمد جميل بيهم الذي سبق أنْ تعرفت عليه عام 1925.
انتقلت إلى لبنان مع زوجها اللبناني، وهناك استمرت بالنضال محققة طموحها. وكانت أهم إنجازاتها:
- تأسيس جمعية “مكافحة البغاء اللبنانية” التي تَحدَّت من خلالها سلطة الانتداب الفرنسي التي كانت تحاول نشر تلك الآفة.
- أنشأت جمعية المرأة العاملة التي تهتم بقضايا النساء، ودعت إلى منحها الحق في أيام الإجازة المرضية وإجازة الأمومة والأجر المتساوي للعاملات، كما دعت إلى التحرر الاقتصادي للمرأة الذي اعتبرته وسيلة للتحرير السياسي.
- أسست ميتماً لتربية بنات شهداء لبنان في عام 1957 .
- أسست لجنة “إخوان الثقافة” التي تهتم بتثقيف الأم اللبنانية في مجالات الحياة كافة، لتصبح رئيسة لها في عام 1959، وأقيم أول احتفال بعيد الأم في لبنان بهذه المناسبة.
- تضامنت مع الشعب الفلسطيني إبان اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى على البريطانيين على يد عز الدين القسام، نتيجة السياسات الاستعمارية القمعية، وتمكين العصابات الإسرائيلية من السيطرة على الأرض.
بذلك برهنت على صحة استشرافها الذي ذكرناه آنفاً خلال مشاركتها في المؤتمر النسائي العربي في القاهرة الذي عقد في 12 تشرين الأول 1938.
- أسست جمعية “تأمين العمل للاجئين الفلسطينيين” ببيروت بعد النكبة الفلسطينية 1948 بعامين، الجمعية تهدف إلى تأمين العمل للاجئات الفلسطينيات وإعدادهن لنيل الشهادة الابتدائية وتعليمِهنَّ فن الخياطة والتطريز، استطاعت من خلال هذه الجمعية تقديم الخدمات لـ 1700 طالبة فلسطينية، وأنشأت 22 مدرسة وميتماً ومشغلاً.
- شاركت في العديد من المؤتمرات المحلية والعربية في كل من مصر وسوريا ولبنان والأردن والعراق، كما أنها شاركت في العديد من المؤتمرات النسائية العالمية منها مؤتمر الاتحاد النسائي الديمقراطي العالمي.
- كانت ذات حظوة ليس بين أفراد جيلها بل لدى الملك فيصل الأول وزوجته، والمسؤولين الأجانب، خاصة لأنها تمتلك كاريزما قوية نطق لسانها بطلاقة خمس لغات العربية والتركية والألمانية والإنكليزية والفرنسية. كانت الكلمة واللغة إحدى وسائل النضال الفعال الذي خاضته إن كان على الصعيد الاجتماعي الداخلي الإصلاحي أو الوطني:
“إذن الشيء المهم بالنسبة للغة هو الخطاب التواصلي فما دام فعل الخطاب “يتضمن أيضاً انجاز فعل أو دعوة إليه، إذ ليس هناك كلام من أجل الكلام فاللغة هي نفسها أداة لممارسة أفعال ويصبح الخطاب قابلاً للتحقق، فالبعد اللغوي للنظرية التواصلية يكمن في توضيح الجانب الاجتماعي التواصلي للغة، فهو يرى فيها مجالاً للتواصل الاجتماعي الفعلي بين الأفراد”.
أدوات نازك في النضال
لم تَكُنْ السياسة إلا جزءاً لا يتجزأ من عالمها ونشاطها التنويري، فقد كرست حياتها من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية، خاصة قضية تحرير المرأة. كانت من أوائل المطالبين بحق المرأة في التصويت والانتخاب، لأنهنَّ القائدات والقادرات على تجييش الشارع وقيادته في مظاهرات نوعية للإفراج عن المعتقلين.
لقد قدمت مثالاً للمرأة عبر موقفها عندما اعتقلت سلطة الانتداب الفرنسي الزعيم الوطني عبد الرحمن الشهبندر ورفاقه، بعد رحيل لجنة كراين 1922.وتقَصَدّت أن تقف أمام الدبلوماسي الأمريكي شارل كراين سافرةً بدون حجاب، عندما جاء للوقوف على حال الشعب السوري في أولى سنوات الانتداب الفرنسي. وقادت _آنذاك- مظاهرة نسائية كبيرة عند أبواب قلعة دمشق مع سبعين سيدة منهنَّ السيدة سارة مؤيد العظم زوجة الشهبندر مع أرامل شهداء 6 أيار، ترفض فيها الانتداب الفرنسي وتطالب بتحرير المعتقلين.
إضاءة على أعمال نازك العابد
مفهوم المعاصرة:
من أقوالها في هذا الشأن:
” ان تطور الحياة العالمية في العصر الحاضر، وتفاقم المزاحمة على أسباب العيش قضيا على المرأة، هذا المخلوق اللطيف أن ينزل إلى الكفاح في ساحة الكسب لمنازلة الرجال منازلة لم يتأهب لها من قبل فكانت صدمة في الناحيتين الصحية والأخلاقية”.
ومن دواعي الأسف أننا نحن الشرقيين، ولئن كنا حريصين على الاحتفاظ بالجنس اللطيف من مميزات لا مناص لنا من مجاراة الغرب فيها فإننا نأخذ كل تقاليده وحضارته، لذلك أصبح من الواجب تنسيق أعمال نسائنا العاملات والكاسبات تنسيقاً يفضي إلى دفع كل ضرر عنهن. وهذا ما أرادته نقابة المرأة العاملة، فإنها تحاول أن توفق بين التخلص من الأزمة الاقتصادية وبين عواقب إقبال النساء على العمل”.
الإفراط في “القناعة كنز لا يفنى” يصيب بالشلل
إثر زيارة نازك لاحدى المدارس، وجدت إحدى المُدرّسات تبالغ في شرح مثل (القناعة كنز لا يفنى) والإعلاء من قيمة القناعة على حساب الطموح. لذلك نشرت في مجلة العرفان مقالاً بعنوان “القناعة دواء إن زاد أضر” . جاء في متنه:
“روح التمرد المتأصلة في نفسي أنقذتني بعد مغادرة المدرسة من بلاغة المعلمة، لاسيما أني كنت طالما أنكرت القناعة وكنزها، وكتبت مرة انتقدها، فعن لي أن أتصفح ما دونت خلال سن الشباب في هذا الموضوع، فإذا بي أقول: “كثيراً ما أجتَهد للوصول إلى نقطة أنشدها وأظن أني بوصولي إليها ألامس السعادة الحقيقية، ولكني لما أدرك هذه النقطة التي كانت نفسي تطمح إليها أشعر بأن أحلامي لم تتحقق، وافتقد القناعة فلا أجدها بل أحبوا للحصول على أوفر مما حصلت وأفضل”. يقولون إن السعادة الحقيقية في القناعة، وأنا لا أشاطرهم هذا الاعتقاد بل القناعة عندي هي كحوض ماء راكد إذا لم يتجدد حيناً بعد آخر فسدت عناصر الماء فيه فأصبح كريه الطعم والمنظر والرائحة تمجه النفوس”
نازك تحارب الطائفية
لقد سمعت نازك من محيطها تفاصيلاً مرعبة عن الأحداث الطائفية الدموية التي حدثت في دمشق عام 1860، -قبل ولادتها بسبع سنوات- التي عصفت في المجتمع الدمشقي الآمن بعنف. وقد نقلوا لها كيف أجارت عائلتها المسيحيين أنذاك. وهو ما حدا القنصل الروسي في دمشق أنْ يُقلّدَعائلتها وسام القديس ستانيسلاس.
تركت هذه الحادثة أثراً لم تنساه عندما شاركت في المناقشات الحادة حول حقوق الأقليات في المؤتمر السوري العام الذي عقد في 1919 – 1920، خاصة الفقرة المتعلقة بدين الدولة الوليدة التي أعقبت انهيار الدولة العثمانية. أدلت نازك برؤيتها حول تطبيق “مدنيَّة الدولة” التي كان أقرانها من الوطنيين المتنورين ينادون بها أيضاً، وعلى رأسهم “عبد الرحمن الشهبندر “الذي عُرِف بعَلمَانيّته.
كانت نازك تتبنى مدنية الدولة لأنها تُمكّن المرأة من نيل حقوقها وانخراطها في المجتمع بشكل حقيقي وفعال. ورغم صدامها مع بعض رجالات الدين الدمشقيين، أعلنت مبدأ محاربة الطائفيَّة. وفي استطلاع نشرته في جريدة الفيحاء، طرحت سؤالاً للرأي العام، كانت على شكل أسئلة تتطلب الإجابة:
سؤال: ما هي أنجع الوسائط لإماتة الطائفية في بلادنا؟
بعض الأجوبة:
- توحيد برامج المدارس والسير بالتعليم على خطة واحدة.
- أحسن الوسائط لإماتة الضغائن الطائفية هو الاعتقاد المتين في الشرائع الدينية لأن كل منها تحرض على احترام جميع الأديان .
- أحسن الوسائط توارد الشبان والشيوخ وكثرة الاجتماعات فيما بينهم وأن يتبادلوا الزيارات والولائم وأن لا تنزوي كل طائفة بمحلة خاصة بها.
- فصل التقاليد الدينية عن المصالح الدنيوية لأننا نرى أن زيداً يتحامل على عمرو ويحقد عليه بداعي الدين وإذا محضنا سبب الحقد نجده دنيوياً.
- أن نؤلف جمعية من كل الطوائف تبذل جهدها لتقوية دعائم الاتفاق.
- العلم، العلم .
- التعارف والتوادد والتحابب والاعتقاد بأن الأديان وجدت لتهذيب العواطف البشرية وتثقيف الأفكار وخدمة الإنسانية التي ترى الضغائن بين الطوائف أنانية مجردة.
أهمية “الجمعيات النسويّة”
عكفت نازك على تشجيع النساء الانخراط في الجمعيات النسوية بعد أنْ لاحظت نجاح تجربتها في هذا المجال. وقد حثت على وجوب تنوع منابت وخلفيات السيدات كاللواتي انضمّمن إلى جمعياتها.
المرأة ضوء الرجل بل لولا التواضع لزعمت أنها تمتاز عليه بدقة الشعور ورقة الإحساس.
وفي اقتباس لنازك ورد في أحد محاضراتها في منتدى “عصبة المرأة العاملة” التي أسستها في بيروت عام 1933، قالت:
“وهذه النقابة التي تفاخر بأنها تألفت من كل الطوائف، ومن الطبقة الراقية المتعلمة تغتبط لأنها جمعت بين الفئة الممتازة من صاحبات المهن الحرة من طبيبات وصيدليات وقابلات وممرضات وكيماويات وصحفيات فضلاً عن الأستاذات والأديبات، وهي ترى من واجبها إثارة وطنية الأمة لترويج المصنوعات الوطنية”.
مخاطر هجرة الريف إلى المدن
في منتدى جمعية “إخوان الثقافة” في بيروت، ألقت نازك محاضرة بعنوان: “المرأة في الحياة الزراعية“، تحدثت فيه عن تجربة سابقة لها حول مزاولتها للزراعة لمدة عشرين عاماً، تؤكد فيها على النساء النظر بقدسية إلى هذا الإحتراف، وقدمت مثالاً عن الزراعة في أوروبا بعد أن تمَّ تأهيل النساء والرجال على السواء ليقدموا أفضل النتائج. نعرض هنا اقتباساً من المحاضرة:
“أشعر منذ الصغر بميل قوي إلى مزاولة الأعمال المجدية، ولما أتيح لي أن أرفع صوتي في المجتمع كان أول ما يخطر لي إذا وقفت خطيبةً أو كتبت مقالاً عن موضوع العمل، وما يجب أن يكون موقف المرأة منه. وما إنْ أمعنت التفكير في رقي بلادي إلا وثبت عندي أن السبيل إلى ذاك يكون بتأمين اقتصادياتها وتحرير شؤونها الحيوية ثم ما تدبرت أمر المرأة ومصيرها إلا وتأكد لدي أنها عبثاً تطلب مساواتها وتحررها عبثاً تتوخى بلوغها، مرتبة الشقيق إذا بقيت عالة عليه في حياتها.”
وفي فقرة أخرى نبهت نازك من مخاطر تفشي هجرة الشباب من الريف إلى المدينة وما سيخلفه ذلك من مشكلات مستقبلية، قائلة
“وأما ترك القرية ومغادرتها إلى المدينة للتحري عن العمل فهذا عارض أو علة اجتماعية يشكو الغرب منه ويوجس خفية من مغبته كل من الشرق والغرب. وما دامت المرأة العربية قد بدأت تفكر في العمل المجدي شئنا أم أبينا مراعاة للحياة الاقتصادية ومجاراة لروح العصر فأرى المجال متسعاً أمامي لأن أناديها بلغة الحب والحنان فأدعوها إلى الحقل، إلى الزراعة إلى الأرض”.
واستفاضت بإعلام الحضور بأنها كانت على علاقة طيبة تربُطها بالفلاحين إذ شاركتهم الزراعة واهتمت بفتيات يتيمات في الغوطة وأيضاً قاتلت معهم سلطات الانتداب في الثورة السورية الكبرى.
متى توفيت نازك العابد
توفيت نازك العابد في 1959، بعد حياة حافلة بالنضال والعطاء. شيّعتها دمشق بجنازة مهيبة، وحضرها الآلاف ممن تأثروا بمسيرتها. اعتبرت نازك رمزاً للمرأة السورية التي كسرت قيود التقاليد ووقفت في وجه الاحتلال والظلم.
خاتمة
ربما لم تكن نازك العابد استثناءً بين بنات جيلها من طبقة النخبة الأرستقراطية المتعلمة رغم فرادتها المشهود لها، كانت نجمة متألقة بالكياسة وحصافة الرأي وصلابة المواقف لتكريس هواجسها الإنسانية والوطنية ووعيها لخدمة وطنها في تلك المرحلة التاريخية. وأهم ما يميزها هو إحساسها العميق بالواجب تجاه بنات جنسها ومجتمعها.
كانت نازك ملهمة للكثيرين من أبناء وطنها والعالم، حتى أن بعض الآباء سموا بناتهن تيمناً بها مثل والد الشاعرة العراقية نازك الملائكة رائدة الحداثة الشعرية.
بماذا لقبت نازك العابد؟
لقب نازك العابد بعدة ألقاب منها ما لقبتها به الصحافة الغربية جان دارك العرب أو الشرق، وسيف دمشق، والوردة الدمشقية ولقبت نازك العابد بإحدى ملائكة الرحمة وغيرها، كُرِّمَت من قبل السلطنة العثمانية والملك فيصل الأول والعديد من القادة السياسيين الذين عاصرتهم كمساهمة في تعزيز دور المرأة كمناضلة وربة عمل وأمٌّ قديرة بتربية أجيال المستقبل.
وللأسف، بالرغم أنَّ هذه الأيقونة السورية “نازك العابد” دخلت العالمية، جاءت نتيجة الاستطلاع المنوَّه عنه في غرة المقال مخيبة للتوقعات، الكثير لم يعرف اين ولدت نازك العابد. إن هذه الأيقونة التي لمعت لم تتلقف بريقها شريحة كبيرة من السوريين بسبب الحكومات الشمولية التي سيطرت على البلاد.
المصدر : منصة مآلات .. سورية رؤى مستقبلية – تصدر في هيوستن – تكساس