لم يكن المقاتلين وحدهم من قاتل في جبهة القتال خلال الحرب الاسرائيلية – اللبنانية، فالاعلام اللبناني كان له دورا كبيرا في صمود المقاومة وتحمل الشعب اللبناني مصاعب هذه الحرب التدميرية.
لعب الاعلام اللبناني بكافة صنوفه واتجاهاته السياسية دورا هاما في توعية اللبنانيين على اهمية الوحدة الوطنية في هذه الحرب الطاحنة التي كان لها هدف معلن هو حزب الله وسلاحه وهدف غير معلن هو تدمير الوحدة الوطنية اللبنانية، التي تجلت بشكل رائع خلال تظاهرة الرابع عشر من اذار، حيث عبر اللبنانيون بوعي كامل لفهمهم لدروس التاريخ، بان الوحدة الوطنية هي المخرج الوحيد لانهاء الوصايات الخارجية والعمل على تأسيس الدولة الحديثة.
والاعلام اللبناني كان سلاحا قويا في هذه المعركة، حيث كان مراسلوا الفضائيات ينقلون التفاصيل الدقيقة للحرب بشجاعة المراسل الحربي ذو المهنية العالية مع ان العديد منهم قد تمرس في الحياة العملية وفي الميدان اكثرمن ما يكون قد تعلم ذلك في مقاعد الدراسة.
والمحللون السياسيون التي كانت تستضيفهم وسائل الاعلام اثبتوا قدرة عالية من الوعي السياسي، حيث كانت تحاليلهم تتطابق كثيرا مع الواقع على ارض هذه الحرب، حيث نسي العديد منهم خلافاتهم السياسية لكي يخدموا صمود لبنان وشعبه.
امام حداثة هذا الاعلام اثبت الاعلام الرسمي العربي بانه كانظمته اعلام مترهل ومنافق، حيث حاول ان يحسن صورة هذه الانظمة واعطائها دورا لم تلعبه في هذه الحرب. فلقد جاءت المهنية العالية للاعلام اللبناني لتثبت هشاشة وتأخر الاعلام الرسمي العربي، حيث ظهر مهرولا وراء مراسلي الاعلام اللبناني، يحاول الحصول على الاخبار والاحداث، ناسين او متناسيين بان المشاهد لن يلتفت لهم في ظل وجود اعلام حضاري ومتطور.
نجح الاعلام اللبناني في اثارة غضب الدولة العبرية، كونه ساهم بشكل فعال بكشف الصورة الحقيقية للعدوان الاسرائيلي واسقاط تلك الصورة الاسطوري الاسبارطية لجيش الدفاع الاسرائيلي ” جيش الاعتداء الاسرائيلي” والتي رسمتها له هزائم الجيوش العربية في حروبها مع اسرائيل. من هنا جاء حنق الدولة العبرية على الاعلام فحاولت ان تخرسه من خلال استهدافها كل اعمدة الارسال لهذه الفضائيات.
بالطبع لم ينجح هذا الاعلام الا من خلال الهامش الجيد من الحرية التي يتمتع به لبنان، حيث بنى شهرته وفرادتها على هذه الحرية التي حاول الجميع خنقها حتى لا تكون نموذجا تقتدي به باقي شعوب المنطقة. فالحرية واحترام الرأي الآخر وتواجد هذا الرأي الآخر، هي العوامل التي ساهمت وتساهم في تكوين هذا الاعلام وتطوره وتقدمه.
لقد علمنا الاعلام الرسمي على الرأي الموحد، الرأي الاحادي الجانب والتفكير، حيث ينقل هذا لاعلام فكرا هزيلا يخدم النظام وبالطبع فهو على صورة هذا النظام التي اثبتت هذه الحرب هشاشته وضحالته. فلاعلام الرسمي العربي لا زال اعلاما مبني سواء على الطريقة الغوبليزية الهتلرية او على الطريقة الستالينية من اجل توحيد الاعلام ومن خلاله الفكر حول هذا النظام او ذاك. بالطبع فان التعددية الفكرية والخروج عن الخط الاعلامي المرسوم هو من باب المحرمات في هذا الاعلام.
في اليوم الاول من هذا العام وصف حسنين هيكل خلال لقائه مع محمد كريشان، لبنان بانه عبارة عن نافذة ذات زجاج واسع يدخل النور الى عتمة العمارة العربية، ودعى العرب واللبنانيين ان لا يدمروا هذه النافذة اما بسدها او بتوسيخ زجاجها حتى لا نفقد النور الذي يدخل الى هذه العمارة.
هذا التشبيه الرائع للبنان ثبتته الحرب الاسرائيلية وتواطئ النظام العربي على لبنان، بان الجميع يريد ان يدمروا هذه النافذة، وهذا الهامش من الحرية الذي يخدم بالمحصلة ليس لبنان فحسب بل كل المنطقة العربية، حيث الاعلام اللبناني مفتوح لكل من يريد التعبير بحرية عن افكاره والتي لا يستطيع ان يعبر عنها من خلال الاعلام الرسمي للنظام العربي.
لقد دفع العديد من الاعلاميين اللبنانيين الذين افسحوا المجال لان يكون هذا الاعلام متنفسا للكتاب والمفكرين للتعبير عن معارضتهم لهذا النظام او ذاك، حيث دخل العديد منهم السجون وقتل البعض الآخر او بالاحرى اغتيل هذا البعض لمواقفه الداعمة للحرية، وكان أخر هؤلاء الشهيد جبران غسان تويني، الذي دفع حياته ثمنا ليس فقط لمواقفه السياسية بل ايضا لفتح صفحات جريدة ” النهار ” لتكون منبرا للتعبير بحرية عن الفكر المعارض للفكر الرسمي.
لقد ثبت بالدليل القاطع بان هامش الحرية هو الذي يخلق الفكر والابداع ويوصل الى الحداثة والديموقراطية، الممنوعة في بنية النظام العربي، ومن هنا كانت الحرب الاهلية، التي شهدها لبنان والحروب التي تلتها، ومنها الحرب الاخيرة الا محاولة لخنق هذه الحرية التي يتمتع بها لبنان واعلامه ومصدره كشعلة تنير عتمة العمارة العربية المترهلة كما وصفها حسنين هيكل.