نسي الجميع أن الضربات الإسرائيلية ضد محور الممانعة والمقاومة، وتحديداً الإسلامية منها، لأنها في الحقيقة ليست وطنية، هي ثلاث ضربات وليست اثنتين فقط. فضرب ميناء الحديدة في اليمن، الذي لم يعد سعيداً، كان رداً على ضرب تل أبيب، حيث دمرت إسرائيل كل مخزونات الوقود في هذا الميناء. ففي فترة قصيرة، لم تتجاوز الساعات، استطاعت إسرائيل أن تضرب هذا المحور أولاً في معقل حزب الله في حارة حريك، المنطقة المحتلة من قبل حزب الله، لتقتل بدم بارد الساعد الأيمن لحسن نصرالله. أما الضربة الثانية، فكانت في قلب طهران، بقتل قائد حماس السياسي إسماعيل هنية، وهو في ضيافة الحرس الثوري الإيراني، وذلك في غرفة نومه وتحت نظر وحراسة مستضيفيه. وكشفت هذه الضربة للعالم كله أن الأمن الإيراني هو المستهدف أكثر من إسماعيل هنية نفسه. فلو كانوا يريدون قتل “قائد مقاوم”، لدمروا كل البناء الذي كان يحوي كل قيادة المقاومة الفلسطينية الإسلامية، لكنهم اختاروا الشخص الأكثر تأثيراً.
كثر الكلام الذي لا يغني ولا يسمن عن رد إيران ومحور المقاومة الإسلامية على هذه الضربات الثلاث، وهو ليس إلا رداً خُلّبياً حسب المفهوم العسكري. الرد الحقيقي هو بمحاسبة أنفسنا قبل أن نحاسب عدونا. فمحاسبة أنفسنا تقتضي أن نراجع وضعنا الأمني الداخلي، وهو ما لم يحدث منذ احتلال فلسطين عام 1920. وأقول هذا التاريخ منذ الهجرة اليهودية إلى فلسطين، سواء عن طريق التعاون البريطاني الصهيوني أو عن طريق بيع وشراء الأراضي من قبل الوكالة اليهودية، وصولًا إلى حرب 1956، ثم حرب حزيران 1967، إلى حرب “التحرير” عام 1973، وهزيمة المقاومة الفلسطينية في الأردن 1970، والحرب الأهلية اللبنانية 1975، ثم تضيع السيد حسن نصرالله لبوصلة المقاومة ليقتل الشعب السوري هو وميليشياته الشيعية، سواء العراقية منها أو الزينبيون أو الفاطميون. وصولًا إلى عملية “طوفان الأقصى” وما نجم عنها من وحدة الساحات. وهذا ليس فقط على الجانب العربي، بل أيضًا على الدولة الفارسية الإيرانية منذ قيام “الثورة الإسلامية” وحتى اغتيال إسماعيل هنية. فلا يكفي أن يقول الولي الفقيه، صاحب المكان والزمان، إن على إيران أن ترد على إسرائيل في قلبها، بل الحقيقة هي أنه إذا أرادوا أن ينجحوا مستقبلًا في ذلك، عليهم أن يحموا أنفسهم قبل القيام بأي هجوم. وعليهم أن يسألوا أنفسهم: كيف وصلت إسرائيل إلى قلب طهران؟ وليس هذا فحسب، بل كيف وصلت إلى قلب الحرس الثوري الإيراني؟ إذا استطاعوا أن يجيبوا عن هذه الأسئلة ويتجاوزوها بتحسين الوضع الأمني للدولة الإسلامية، عندها يستطيعون الرد على هذه الاختراقات. غير ذلك ليس إلا دفنًا للرؤوس في الرمال كالنعام.
اليوم يطرح السؤال ذاته على محور الممانعة والمقاومة الإسلامية. تستطيع إسرائيل أن تجند مئات الآلاف من العملاء، ولن يبرر ذلك القول بأنه التفوق التكنولوجي. التفوق التكنولوجي هام، ولكنه ليس الأساس. أعتقد أن التأخر الاجتماعي والسياسي والثقافي، وأهمها التأخر والمعاناة المعيشية، هي التي تسهل التجنيد. تصرف إيران، والعراق مثلها، وسوريا مثلها، مليارات الدولارات على تصدير الثروات وحماية الخاصرة الرخوة للبلد، في الوقت الذي تعيش فيه شعوبها في فقر مدقع. وهذا يسهل على أي عدو تجنيدهم. إذا لم تكن هناك خلايا تجسسية على الأرض، فهي التي تسهل جمع المعلومات وتحديد الوقائع على الأرض. فلا ينفعها التقدم التكنولوجي.
اليوم تصدر إيران الثورة الإسلاموية، ولنقل بصراحة الشق الشيعي منها. وهذا التصدير يلزمه الكثير من الأموال، ولن يكون إلا على حساب الإنسان البسيط الذي يبحث عن لقمة العيش. أضف إلى ذلك الرفاهية التي تعيشها الطبقة الحاكمة الفاسدة والأجهزة الأمنية الملحقة بالسلطة، التي لا تقوم بعملها، بل تشكل أداة لقتل واضطهاد شعوبها، مما يسهل تجنيدها.
اطلعت على كتاب “مآسي حلب” لمجموعة من الكتاب، يقول فيه أحد عناصر الفاطميون إنه لا يعرف لماذا هو في حلب، فعندما جندوه، جندوه على أساس الدفاع عن العتبات المقدسة، وهو لا مشكلة لديه مع الشعب السوري في حلب، فكلهم إخوة في الدين له. جاء لـ”الجهاد” ضد أعداء الإسلام، ولأنه ساذج يخضع لأيديولوجيا النظام الذي جنده لحربه المتخيلة.
لكي نتحدث عن الثغرات الأمنية، يلزمنا مجلدات. ولكن علينا أن نبدأ بدراسة هذه الثغرات لكي نستطيع تجاوزها. وأولها التركيز على تنظيف الأجهزة الأمنية، فهي وجدت لحماية أمن البلد، وليس لحماية أمن الأنظمة المتسلطة على رقاب شعوبها.