زعيمان سياسيان احببتهما، وكلاهما قد اغتيل بسبب عروبتهما ورفضهما لأي تدجين وهما الزعيم الخالد الشهيد جمال عبدالناصر، والمعلم الكبير كمال جنبلاط. جمعت العروبة والاستقامة والمواقف الصلبة بينهما، في حين كان الكثيرون يتراجعون عن مواقفهم ومبادئهم، كان هذان القائدان يزدادان تمسكا بمواقفهما المبدئية معتمدين العروبة نبراسا لنضالهما السياسي
رحل عبد الناصر اغتيالا في 28 ايلول1970، وهو ثاني اغتيال له، بعد ان تم اغتياله سياسيا في 28 ايلول 1961 يوم انفصال عرى الوحدة المصرية السورية، ورحل كمال جنبلاط في السادس عشر من اذار 1977، اغتيالا. كلا الشهيدان اغتيلا لانهما قالا لا، ورفضا التدجين الذي ارادته الولايات المتحدة الامريكية للمنطقة العربية
جمع بين عبدالناصر وكمال جنبلاط القومية العربية، حيث ناضلا في سبيل تحقيق الاهداف القومية للامة العربية، كما كانت ثقة الرئيس عبدالناصر بكمال جنبلاط ثقة تامة، حيث ثبت له منذ التقيا في دمشق لاول مرة بعد قيام الوحدة المصرية السورية، بان كمال جنبلاط هو الزعيم اللبناني الامثل الذي يستطيع تخصيصه بالثقة الكبيرة، التي لم يعرفها اي زعيم سياسي في لبنان. قصة انقلها عن لسان احد قيادات الشعبية في الطائفة الدرزية في سورية، تثبت هذه الثقة ما بين كلا الشهيدين عبد الناصر وكمال جنبلاط. هذا الرجل كان الراحل السيد نجيب حرب، صاحب جريدة “الجبل” التي كانت تصدر في سورية والتي الغاها نظام البعث بعد الثامن من اذار، حيث نقل لنا بان دوائر السلطة في زمن الوحدة اخذت تدعم الثورة ضد كميل شمعون، بالمال والسلاح، ولكن لوحظ بان هذه الاموال والاسلحة تفوق كل المعقول الذي تطلبه القيادات اللبنانية، فكان كمين لاحد هؤلاء حيث بيع السلاح وهو لم يستلم بعد، على اثره اتخذ عبدالناصر قرارا بان لا يصرف اية قطعة سلاح او مبلغ من مال مهما صغر الا بكتاب من كمال جنبلاط، نظرا لانه الوحيد غير الملوث من هؤلاء الزعماء. اما كيف عرف الاستاذ نجيب حرب بهذا القرار فعن طريق الزعيم الشيعي أحمد الأسعد الذي جاء يطلب منه التوسط لدى كمال جنبلاط للحصول على السلاح، فقص له ما تقدم
وبعد جريمة الانفصال كان كمال جنبلاط من القلائل الذين وقفوا ضد الانفصال لانه بعمق تصوره علم بان هذه الجريمة هي بداية الانهيار العربي، يومها لم تردعه تلك الحملات المشبوهة ضده من قبل الانفصالين الذين حاولوا ان يشوهوا صورته من خلال الكتب السوداء التي كانت تنشر في بيروت ضد كل من وقف ضد الانفصال ومع الوحدة
استمرت العلاقة ما بين جنبلاط وعبدالناصر حتى بعد هزيمة 1967 والى يوم سقوطه شهيدا، وانقطت هذه الصلة بحكم استشهاد عبد الناصر ولكنها استمرت مع رموز التيار الناصري في الجمهورية العربية المتحدة، ويوم انقلب انور السادات على هذا التيار وشن عليهم حملة ضارية وبشعة من محاكم وتحقيقات واشاعات، كان كمال جنبلاط من القلائل الذين دافعوا عن هذه المجموعة، حيث كتب في جريدة “الانباء” جريدة الحزب التقدمي الاشتراكي مقالا ان لم تخني الذاكرة كان بعنوان “جنبونا هذا العار” حيث دافع الراحل عن علي صبري ومجموعته طالبا من انور السادات تجنيب الامة العربية عار محاكمتهم لانهم رفاق درب عبد الناصر المخلصين
كان الراحل الكبير رجلاً أكبر من حجم طائفته، لا بل أكبر من حجم لبنان، حيث شكلت علاقاته العربية والدولية دعماً لكل قوى التقدم والتحرر في لبنان والمنطقة العربية وخاصة المقاومة الفلسطينية التي دعمها بكل ثقله حتى يوم استشهاده. وكبر هذا الدور هو الذي وضعه في دائرة الخطر، ومن هنا كان الكثيرون يفتشون عن تصفيته، وكان لهم ذلك في السادس عشر من اذار 1977 عند منعطف شارع في بلدة بعقلين حيث انقضت عليه مجموعة مسلحة اغتالته ومرافقه والسائق، وهو في طريقه الى دمشق لزيارة حافظ الاسد بعد وساطة قام بها رياض رعد، رجل سورية في لبنان حيث ارتبط اسمه بالوساطات ما بين سورية والقوى اللبنانية، ولقد تردد اسمه اخيرا بالوفد الذي ذهب الى باريس لمقابلة العماد عون لاطمئنانه اذا اراد العودة الى لبنان
يوم اغتياله كان يوما حزينا على لبنان، والحزن لم يشمل فقط طائفته وحزبه التقدمي الاشتراكي، بل كل لبنان لانه بعد سقوط عيون السيمان في يد الحركة الوطنية، استطاع التوصل مع بشير الجميل الى اتفاق حول البرنامج الاصلاحي الذي طرحته الحركة الوطنية بزعامته انذاك. اغتياله كان متوقعا وجاء في رأسه، حيث اخترقت الرصاصات لتفصل غطاء الجمجمة وتكشف عن دماغه الذي اصيب وتطاير خارج رأسه، وكأن الذي خططوا كانوا يعرفون خطورة هذا الدماغ عليهم حتى وهو ميت فارادوا ان يصيبوه فيه
مات كمال جنبلاط، ولكن تعاليمه بقيت تنير درب رفاقه في الحزب التقدمي الاشتراكي وفي الحركة الوطنية اللبنانية، التي بقيت امينة لتعاليمه
أول ما تعرفت على فكر كمال جنبلاط كان عن طريق محازب له هو الشهيد أنور الفطايري وابن أحد خصومه طارق ابن قحطان حمادة الذي أراد كميل شمعون أن يحوله الى ند لكمال جنبلاط، وكنا على مقاعد الدراسة في معهد الرسل في لبنان، يومها قلت لنفسي بان أنور يبالغ في وصفه لكمال جنبلاط وطارق يبالغ في حقده، ولكن مع بداية وعيي السياسي واطلاعي على فكر كمال جنبلاط، عرفت بأن أنور الفطايري لم يكن مبالغا في وصفه، بل لم يعطيه حقه حيث كانت كل القوى السياسية في لبنان والعالم العربي يحسبون له ألف حساب، فكل رجال السياسة في كفة وكمال جنبلاط في كفة
لم يبالغ من سماه صانع الرؤساء والحكومات في لبنان، ومن ناصبه العداء كان الندم نصيبه لانه كان يرفض المهادنة. وبالفعل فالمراقب للسياسة اللبنانية في نهاية الاربعينات وحتى اغتياله يلحظ هذا الامر، فهو الذي اسقط بشارة الخوري ودعم شمعون ووافق على فؤاد شهاب واختار شارل حلو وانتخب سليمان فرنجية لينجح بصوت يتيم. مرة واحدة فشل كان يوم انتخاب خليفة لسليمان فرنجية حيث دعم خصمه اللدود عميد الكتلة الوطنية ريمون اده، حيث سقط اده ونجح سركيس لإن الأخير كان مدعوماً من سورية التي كانت تفرض نفوذها في لبنان. وكان الانتخابات هذه آخر نشاطات كمال جنبلاط السياسية اغتيل بعدها بأشهر قليلة
اليوم وأنا أستمع الى وليد جنبلاط تمر حياة الراحل كشريط سينمائي، حيث كان لذكرى اغتياله الثامنة والعشرين نكهة مختلفة عن كل الاعوام السالفة، فلقد تاكدت نظريته بان لبنان مهما انتكس لا يمكن ان يكون الا ديموقراطياً. لقد دفع كمال جنبلاط حياته ثمنا للديموقراطية والعروبة والعلمنة في لبنان وهو ما لم يساوم عليه مطلقا لذا اغتاله من أراد تغييب لبنان الديموقراطي والعروبي والعلماني
كتبت هذه المقالة عام 2005 بعد اغتيال الرئيس الحربري ومع قدوم الذكرى 34 لاغتيال كمال جنبلاط في السادس عشر اثر غزو سورية للبنان الذي قاومه كمال جنبلاط واردنا نشرها مجددا كوردة على قبره