ما حدث في قصر العدل في بيروت من تبادل العزل بين القاضي غسان عويدات والمحقق العدلي طارق البيطار أحزن كل من يحرص على سيادة القانون وتحقيق العدالة. فقد نفذ القاضي عويدات، بقراره الذي يُعد خروجاً عن الأصول القانونية، إرادة من يسعون “لإزاحة” القاضي البيطار، وأطلق سراح المساجين، سواء كانوا مذنبين أو غير مذنبين. لقد حقق القاضي عويدات ما كان يطمح إليه حزب الله وحليفته حركة أمل بإزاحة القاضي البيطار، وهو الأمر الذي لم يتمكن غيرهم من تحقيقه رغم المحاولات، حتى الدماء التي أريقت في الطيونة وعين الرمانة لم توقفهم عن سعيهم في تحقيق أهداف حسن نصر الله ووفيق صفا. ولن أصفهما بلقب السيد أو الحاج، لأن من يدمر العدالة لا يستحق تلك الألقاب.
ما حدث في قصر العدل اللبناني يفتح ملف العدالة ليس فقط في لبنان، بل في المنطقة بأكملها. فالعدالة قد ضُربت في دول مثل إيران، العراق، سوريا، اليمن وغيرها، حيث أُلغيت العدالة بجرة قلم. فلا يمكن تحقيق العدالة في ظل الاستبداد، لأن العدالة والاستبداد على طرفي نقيض. سنتناول في هذا المقال العدالة في كل من لبنان وسوريا، وهما كما وصفهما القوميون “الدولتان الشقيقتان” أو “التوأمان”.
ما حدث في لبنان ليس مستغرباً، لأننا في سوريا فقدنا العدالة منذ صدور البلاغ رقم واحد في الثامن من آذار 1963، حيث استولى العسكر على السلطة، وأُعلنت حالة الطوارئ التي لم تُلغَ إلا بعد انتفاضة الشعب السوري عام 2011. لقد استمر هذا القانون قرابة نصف قرن، وعندما أُجبر النظام على إلغائه، استبدله بقانون مكافحة الإرهاب، الذي كان أشد قسوة من قانون الطوارئ. لم يعد هناك قانون حقيقي؛ بل أصبحت السلطة بيد الأجهزة الأمنية التي تُصدر الأحكام العرفية كما يحلو لها.
انتقل الفساد الموجود في قصور العدل في سوريا إلى لبنان نتيجة الاحتلال السوري، وأصبح القضاء اللبناني في حالة أسوأ. العدالة في لبنان انتهت لتحل محلها عدالة عنجر والبوريفاج والكلية الأمريكية، حيث كان غازي كنعان هو المشرّع والمنفذ، فأصبحت سلطات التشريع والتنفيذ والقضاء جميعها بيده. لم يعد للقانون مكان في لبنان، حيث كانت تُفبرك الملفات للجميع.
في لبنان، يُحال كل الجرائم الكبرى على المجلس العدلي، بما في ذلك الاغتيالات التي نفذت بأمر من سلطة الاحتلال في عنجر. نذكر منها اغتيال معروف سعد، كمال جنبلاط، الشيخ حسن خالد، الرئيس رينيه معوض، الرئيس بشير الجميل، وغيرهم. وآخرها جريمة اغتيال مدينة بيروت بتفجير المرفأ.
عُيّن القاضي فادي صوان محققاً عدلياً في قضية تفجير المرفأ، وبدأ التحقيق في هذه الجريمة التي طالت المتورطين بها. لكن عندما بدأ القاضي صوان في التحقيق مع بعض الشخصيات النافذة، انتفض كل من حسن نصر الله ونبيه بري وسليمان فرنجية لحماية أنصارهم. ومع الأسف، فإن سليمان فرنجية مرشح لرئاسة الجمهورية، وإذا ما تولى هذا المنصب، فمن غير المتوقع أن يحمي الدستور، كونه هو أول من خرقه. لم تُرفع الحصانة عن النواب والوزراء المطلوبين للتحقيق، وبدأت المطالبات بإزاحة القاضي صوان، ليُعيّن بدلاً منه القاضي طارق البيطار، الذي استمر في التحقيقات، مما زاد من قلق المتهمين.
نصل هنا إلى السؤال الأهم: كيف يمكن بناء الدول؟ وأين نبدأ؟ في بدايات الثورة السورية كتبت مقالاً حول خطط الثورة لبناء الدولة، وطرحت حينها أن أول ما يجب إصلاحه هو القضاء الفاسد، وذلك بسن قوانين تحمي المواطن وتضمن تنفيذ الدستور. تحقيق العدالة هو الأساس لبناء دولة على أسس سليمة. ثاني المسائل التي يجب معالجتها هي البطالة المقنعة، من الأجهزة الأمنية إلى مكاتب البعث، وهو ما يشكل نزيفاً في ميزانية الدولة السورية.
إذا أردنا الإصلاح، فإن أول خطوة يجب اتخاذها هي إصلاح القضاء وتنظيم عمل القضاة وسن تشريعات حديثة تبتعد عن التشريعات الدينية التي تُلغي العديد من القوانين الوضعية الضرورية لتأسيس دولة المواطنة.