استثارني إيجابياً ما كتبه د . حازم نهار حول ” دول تقدمية ، رجعية ” ودول رجعية تقدمية ” وهو مهم . وكنت قد تعرضت لنقد هذه المفاهيم مرات عدة كان آخرها مقالتي ” خواطر من أوراق ياسين الحافظ ” جريدة السفير 31 / 10 / 2012 .
حقاً كم هي رمادية الإيديولوجية لأنها تحدد النظر باتجاه واحد أمام شجرة الحياة الخضراء تتيح الننظر في جميع الاتجاهات ، ولا نخفي كم ساهمنا في تلك الرمادية عندما تبنينا لوناً واحداً ، وقسمنا المجتمع وليس الدول فقط إلى رجعي وتقدمي على أساس الولاء لهذا اللون أو عكسه ، دون أن ندرك ماذا يعني كل منهما أو ما يحمل كل منا في داخله من عناصر رجعية تفوق بكثير عناصر التقدم .
التقدم والرجعية مفاهيم مكتسبة ترتبط بالوعي ، التقدم ، إبداع وإطلاق ملاكات الإنسان المبدع الصانع كي يبني مستقبله وفق هذا الإبداع ، والرجعية ، إجهاض لهذا الإبداع . والتقدم لا يقيم بالمظاهر واللباس والمباني أو الشوارع والسيارات الفارهة التي توفرها الأموال المهدورة والتكلفة التي تزيد أضعافاً مضاعفة عن تكلفتها الحقيقية ، كما لا تقيم بالادعاءات الفارغة عن الصمود والتصدي ، ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة في سبيل تبرير مصادرة الرأي وإباحة المال العام والنهب والفساد .
الاستبداد بمفهومه وممارسته أهم ظاهرة رجعية مهما كانت مبرراته وأسبابه والجهة التي تمارسه ، سلطة كانت أم فئة أم مجموعة ، لأنه بالأساس يدخل في باب الهمجية التي تعود إلى ما قبل تفتح الوعي الإنساني الذي أسس للمواطن صاحب الحقوق والواجبات ، ولأنه يطيح بكل المواثيق والعهود التي شرعتها الإنسانية لحماية الإنسان من الاضطهاد والقهر منذ حمورابي وشرائعه ، وعمر ابن الخطاب ” متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ” إلى مئات الثورات و آلاف الفلاسفة والمثقفين التي دافعوا عن الحرية وضحوا من أجلها ، ومن المؤسف أننا شرعنا لهذا الاستبداد برجعية واضحة عندما بررناه بمقولة ” الشعب العربي غير مؤهل للديمقراطية ” ، إيديولوجية رددتها أغلبية من المثقفين العرب ( التقدميين ) ليلتقطها الحاكم ويبني عليها استبداده ويعززه ، ناسين أن الديمقراطية كمفهوم أخذه العرب عن اليونان قبل أن تتبناه أوربا ، وكأننا لا زلنا في زمن أرسطو الذي برر للمقدوني قتله لشعوب الشرق على أساس أن هذا الشرق ( الحزين ) لا يعرف إلا العبودية .
العائلية ، العشائرية ، الطائفية ، التي تعني النزعات الإيديولوجية للعائلة والعشيرة والطائفة …الخ ، حالات رجعية لأنها تسبق تشكيل الدولة الحديثة وتضع هذه المكونات في مواجهة مع بعض بعد أن وحدتها هذه الدولة في مجتمع واحد ووطن واحد . دون أن تلغيها كتكوين وعادات وتقاليد وثقافة .
اضطهاد المرأة ، نصف المجتمع ، هو حالة رجعية عندما يبرر تحت ذرائع إيديولوجية ، تجعل منها ( حرمة ) وتلغي طاقاتها كفرد مبدع يساوي الرجل في وعيه العقلي وإبداعه الفكري والعلمي ، ويتفوق عليه في الأعمال الإدارية وإدارة المنزل .
اضطهاد الأقليات وتجاوز حقوقها السياسية والثقافية ومعتقداتها هي حالة رجعية تسبق أيضاً نشوء الدولة الحديثة التي تساوي بين المواطنين بغض النظر عن انتمائهم .
مصادرة الرأي وعدم الاعتراف بالآخر ، وحقه بالتعبير وتنظيم حياته السياسية حالة رجعية .
الفساد والإفساد وهدر المال العام والتصرف به على غير وجه قانوني حالة رجعية لأنها تقع خارج سيادة القانون .
الدولة هي راعية المواطن وعنصر الطمأنينة لحياته وممتلكاته وتأمين الخدمات له مقابل تأدية واجبه المادي والأخلاقي له ، وعندما تفقد الدولة مهمتها هذه تتحول إلى كيان رجعي لا وظيفة له .
الحضارة ، تقدم لأنها نقيض هذه الممارسات والشعوب الحضارية هي التي تواجهها ، الشعب المصري في زمن الملك ( فاروق ) شعاره ” الدين لله والوطن للجميع ” متقدم سياسياً على ما كان عليه في زمن مبارك ( التقدمي ) .
دستور سورية 1950 متقدم على كل الدساتير التي جاءت بعده ، وسورية كلها في عام 1956 – 1958 متقدمة سياسياً على كل المراحل التي تلتها من انقلابات وثورات واليمن بوجود علي عبد الله صالح لم يضفي أية حالة تقدمية على ما كان عليه اليمن في عهد الإمام يحيى أو البدر ولا العراق أو السودان أو الجزائر وليبيا القذافي .
وفق هذا التقويم لا توجد أنظمة تقدمية في الوطن العربي بل أنظمة ألغت ما كانت قد بنته بعض الشعوب من بادرات نحو التقدم والتحرر من الرجعية وفق هذه المفاهيم للرجعية .
الربيع العربي يحاول الآن أن يخلق وضعاً جديداً ربما يؤدي إلى منهج تقدمي حضاري ولكن بعد حين .