الياس مرقص في الذكرى الثالثة والعشرين لوفاته
1929 – 26 كانون الثاني 1991
نقد
ماذا لو كان الياس مرقص بيننا الآن كي يشهد على ما وصلت إليه الأوضاع العربية وشعوبها وهي تمر بمرحلة لم يشهدها أي شعب من الشعوب في التاريخ المعاصر على الأقل. بعد أن أخضعها هذا الوضع لجملة من الأزمات أطاحت حتى بالمحاولات الهشة التي بذلت على مدى أكثر من قرن لمواكبة النهضة ودخول العصر وكانت دوما تصطدم بعراقيل سياسية وإيديولوجية غير قابلة للاختراق.
لقد وقف الياس بالكلمة والورقة والقلم مع الشعوب العربية وتطلعاتها للنهضة وقدم كل ما استطاع في هذا المجال، لكنه كان يواجه بعائقين لهما تأثيرهما المباشر على هذا الوضع.
الأول: الأنظمة العربية التي وقفت عائقاً أمام تحقيق مشروع النهضة وتشكيل دولة وطنية ديمقراطية حديثة، وذلك بسبب حجم القمع والاستبداد والديكتاتورية ومصادرة الحريات، وعوامل النهب والاستغلال، وتكريس التأخر والتخلف والتبعية التي مارستها.
الثاني: المعارضة التي واجهت هذه الأنظمة بأساليب تقليدية فيها الكثير من (الدروشة والمسكنة)، بحيث كانت تمنحها شرعية البقاء أكثر مما تساعد على إقصائها، ولأن الكتلة الرئيسية من الشعب مغيبة عن حق تقرير مصيرها، فقد وقع عبء هذه المهمة على (النخبة) الثقافية والسياسية التي لم تنجح رغم التضحيات الجسيمة التي قدمتها في إحداث أي تغيير في نهج هذه الأنظمة التي راهنت عليه، أو في التغيير الشامل الذي غاب عن برامجها. وهذا ما جعل الياس مرقص يوجه نقداً لهذه النخب بأحزابها وشخصياتها ومؤسساتها التي نجد أن الكثير منها نمت فيما بعد وانتشرت بفعل المال الثقافي والسياسي وليس بسبب الحاجة والضرورة التي تتطلبها، لكن نقده هذا كان موضوعياً ينطلق من التزامه بالمصلحة الوطنية ومصلحة الشعب وإن كان قاسياً في بعض جوانبه، ويبرر هو هذه القسوة بالقول “علها تحدث صدمة لدى هذه النخب تجعلها تعيد النظر بأسلوبها ومناهجها” ذلك لأن المثقف الحقيقي هو الذي يسعى نحو ثقافة تؤسس لمشاريع جديدة دون أن تضطره للتخلي عن القديم الذي لا يتعارض مع هذا التوجه خاصة عندما توضع الثقافة في خدمة الاستبداد والفساد أو تتحول إلى أصولية متطرفة ترتبط بالاستبداد ارتباطاً وثيقاً بحيث يولد كل منها الآخر . إن الكثير من هذه النخب وبدلاً من تشكيلها دليلاً ثقافياً للسياسيين المعنيين، يخدم مصالح الشعوب، وقعوا في تبعية هؤلاء السياسيين ودافعوا أو سوغوا لهم القمع والاستبداد والفساد كي يحظوا بمواقع (إدارية) توفرها لهم النخب السياسية أو يحافظوا على مثل هذه المواقع .
لم يتوقف تطور الوعي عند الياس مرقص عند حدود الالتزام بموقف واحد بل كان صيرورة فكرية متطورة انتقل بها من نقد الماركسية المؤسسية المشوهة من قبل الجهات والأحزاب التي تبنتها واستخدمتها وسيلة لهيمنتها إلى نقد (العقلانية العربية) نشاطه الأبرز في صيرورة هذا التطور نظراً للتأثير السلبي لهذه (العقلانية) التي لم تكن إلا عقلانية مشوهة أكثر منها (لاعقلانية) سواء من التزم بها من الفكر القومي أو الماركسي أو الديني، أو (الفكر المقاوم) والتي لم تؤدي إلا إلى الهزائم المتكررة وتولد نماذج سياسية متخلفة ومتأخرة. (أنظر كتابه (نقد العقلانية العربية الذي صدر بعد وفاته). هذه (العقلانية) ظهرت مؤخراً بصورة واضحة وجلية في قصورها وعجزها عن مواجهة أو إدارة الأزمات التي أحدثتها ثورات الربيع العربي خلال السنوات الثلاثة الماضية والتي وصلت حد الفعل لإجهاض هذه الثورات. وبهذا المنظور كان يلتقي مع رفيقه وصديقه ياسين الحافظ الذي تناول من منطلق مشابه (اللاعقلانية في السياسة العربية) كتابه الشهير الذي حاول من خلاله تعرية السياسات العربية التي ولدتها هذه الثقافة وكانت تدفع لمزيد من الهزائم وتعبر بشكل واضح عن واقع التأخر الذي كان يتكرس ويتعزز بعد كل هزيمة .
أمام هذا الواقع لم يكن أمام الياس سوى النأي بنفسه عن أي التزام مباشر بحزب بعد التجربة المريرة التي عاشها في الحزب الشيوعي السوري أدت به لسجن طويل وإهمال متعمد من قبل (الرفاق) ، ولم يشأ الانتساب لحزب البعث عندما عرض عليه بعد تنظيم زيارة له لبغداد بعد انقلاب شباط 1963 رأى خلالها بعينه ماذا فعل الفاشست من قادة الانقلاب والحرس القومي بالشعب العراقي، واعتذر أيضاً عن انتمائه (لحزب العمال الثوري العربي) الذي كان من مؤسسيه رفاقه ياسين الحافظ وجورج طرابيشي وحمدي عبد المجيد وطارق أبو الحسن وغيرهم، رغم مساهمته معهم في صياغة أغلب الوثائق التي أصدرها وكان اعتذاره يستند إلى أن انتماءه للحزب سيحد من حريته الفكرية ونشاطه الثقافي. رغم قناعته بالضرورة التاريخية لنشوء حزب عربي ملائم لتطور العصرعبرعنه في كتابه الهام (نظرية الحزب عند لينين والموقف العربي الراهن) إلا أنه لم يرى أن الظروف قد نضجت لتشكيل هذا الحزب خاصة في الظروف شديدة السرية التي كان على أي حزب سياسي معارض أن يعمل ضمنها. ونأى بنفسه عن الانتساب للتجمع الوطني الديمقراطي في سورية الذي ترأسه الدكتور جمال الأتاسي الذي ارتبط معه أيضاً بصداقة فكرية وسياسية متينة، بل لا اعتقد أن الأتاسي عرض عليه مثل هذا الانتساب .
في عام 1965 أقر المجلس القومي الأول لحزب العمال الثوري العربي ضرورة إصدار وثيقة نظرية ترسم توجهاته الفكرية، وسعى ياسين الحافظ وجورج طرابيشي بالتعاون مع الياس على صياغة هذه الوثيقة وهم من المثقفين البارزين في تلك الفترة، لكنها وعلى مدى 13عاماً لم تصدر إذ لم يكن من السهل صياغة مثل هذه الوثيقة بشكل مسبق قبل أن يرصد الحزب توجهات أعضائه وممارساتهم. وبعد وفاة ياسين عام 1978 وسفر جورج لفرنسا أوكل الحزب المهمة إلى الياس وقد بذلت معه جهود كبيرة خاصة بعد عام1981 التي أشرف فيها على إصدار (مجلة الواقع) ذات الصلة بالحزب، لكنه في كل مرة كان يعتذر مبرراً ذلك وهو محق بأن الحزب ليس بحاجة لوثيقة نظرية بل لأفكارعامة متوفرة في عشرات النظريات وهو قادر على اختيار ما يناسب هذه الأفكار .
ونحن الآن في مرحلة حرجة من تاريخنا الوطني والقومي، وأمام ما حققته ثورات الربيع العربي التي التقت في مطالبها الوطنية والديمقراطية مع كثير من التوجهات العامة التي نادي بها الياس مرقص ورفاقه بعقلانية حقيقية تؤسس لثقافة وطنية تنتج سياسة ديمقراطية في دولة حيادية يتساوى فيها المواطنون بكل حقوقهم دون أي تمييز. إن مصير الوطن والأمة سيتوقف على تلك الثقافة الوطنية الديمقراطية التي تنتج مشروعاً نهضوياً حضارياً ديمقراطياً يعزز قيم المواطنة والمساواة والعدالة وحرية الرأي والتعبير ويوحد المجتمع