مسيحيو سورية أثناء الانتداب الفرنسي
مواقفهم ودورهم في البناء والنضال
دخلت فرنسا سوريّة عنوة. رضخ بعضهم للأمر الواقع نظراً لصعوبة التصدّي لقوّة فرنسا العسكريّة ورأوا في الانتداب مرحلة تمهيديّة للبلوغ إلى الاستقلال الكامل وتنظيم أطر الدولة الحديثة. ورفض غيرهم الاستسلام ورفعوا السلاح ضدّ الجيوش الفرنسيّة وقامت ثورات عدّة أشهرها ثورة حوران وثورة إبراهيم هنانو والثورة الكبرى بقيادة السلطان الأطرش.
واضطرت فرنسا إلى التفاوض وبعد مرحلة الكفاح المسلّح بدأ دور الكفاح السياسي الذي تعرقل مراراً. وصعب على فرنسا التخلّي عن سوريّة إلى أن اضطرت إلى جلاء آخر قوّاتها في نيسان 1946 بعد أنّ حصلت الدولة السوريّة على الاعتراف الدولي باستقلالها.
نلقي في ما يلي بعض الأضواء على مواقف المسيحيّين في تلك الحقبة وعلى أوضاعهم ودورهم في بناء البلاد والنضال في سبيل الاستقلال ضمن الوحدة الوطنية.
المطران نيقولاوس قاضي مطران حوران للروم الكاثوليك وثورة حوران
نشر المطران نيقولاوس قاضي مطران حوران للروم الكاثوليك مقالاً في مجلّة المسرّة للآباء البولسيين عام 1920 ص 565 – 572 يصف فيها “حوادث حوران الأخيرة”، وهو وثيقة صادرة عن شاهد عيان ومعاصرة للأحداث. جاء فيها: ” إنّ الملك فيصل لم يتوجّه مباشرة إلى الحجاز بعد دخول الفرنسيّين كما وعد بل توقّف في درعا وأخذ يثير الخواطر على الدولة المنتدبة وعلى رجال الحكومة الذين ادّعى أنهم خانوا وطنهم وأسلموه إليها. كان رئيس الحكومة علاء الدين الدروبي ويترأس ديوان الشورى عبد الرحمن باشا اليوسف فقرّ رأيهما مع ناظر الدولة عطا بك الأيّوبي زاده على الشخوص إلى حوران للتفاهم مع رجالها. وكانت واقعة محطة خربة الغزالة في 20 آب 1920 التي اغتيل فيها الوزيران ونجا ناظر الداخليّة. وفي اليوم التالي أرسلت الدولة المنتدبة سريّة من الجنود السنغاليّين ضمن أربعة من القطر المصفّحة وبعد 50 كم من دمشق قرب قرية تبنة كان العرب قد خرّبوا بعضاً من القضبان الحديديّة، وإذ نزل القائد لإصلاح الخط بادرته العربان المختبئة وراء اللجم السوداء بوابل من قنابل البنادق التي تركها لهم الشريف. وكانت محطّة المسميّة قد دمّرت أيضاً. ولمّا خاب أمل العرب بالاستيلاء على محتويات عربات القطار انقلب قسم منهم على بعض قرى المسيحيّين كتبنة وشقرا ونهبوا كلّ أمتعتها وحبوبها وأحرقوا كنائسها بعد ما سلبوا الأواني المقدسة والملابس الكهنوتيّة والكتب الكنسيّة فوصل عويلهم إلى المطران فطلب هذا من القومندان كاترو ليذهب إلى الصنمين للإشراف على حالة المسيحيّين الذين كانت تساورهم الأخطار والأحزان.
ركب المطران القطار المصفّح الذي وُضع تحت تصرّفه واجتمع بأحمد الغصين شيخ عربان تلك الناحية الذي أعدّ له ذبيحة للعشاء، وأظهر له صعوبة التصدّي لفرنسا.” وما زلت كذلك حتى وقع عليّ بدخالة العرب يطلب مساعدتي إزاء قائد الجيوش الفرنسيّة فقبلت دخالته ووعدته خيراً. وطلبت ورقاً لأكتب له كتاباً إلى القومندان كاترو الذي كتبت له واقع الحال راجياً الصفح عن ذنبه وتأمين حياته مع من يصحبه من أعوانه ونصحته للذهاب إلى كاترو ومقابلته مع ثلاثة من معاونيه واثنين من المسيحيين”. ثمّ زار المطران بصير وخبب. ” وتوارد عليّ كثيرون من وجهاء ومشايخ الحوارنه يطلبون وساطتي لدى السلطة العسكريّة فكان الجواب واحداً للكلّ وهو الخضوع لها فأكفل لهم حياتهم وعدم التعرّض لقراهم ومواشيهم. وهكذا تمكّنت من إخضاع كثيرين منهم للسلطة الفرنسيّة وأما الذين تمادوا في عتوّهم فقد ضربتهم الجيوش الفرنسيّة تلك الضربة القاضية على حياة الثورة الحورانيه في موقعة الدلي وذلك في 13 أيلول فاستسلم الزعماء إلى السلطة الفرنسيّة مع متقدميهم إسماعيل بك الحريري زعيم شيوخ حوران وطلال الحمد كبير شيوخ عرب اللجاه. فأمّنهم الكولونيل بولة على حياتهم مشترطاً عليهم تصليح ما خرب في الخط الحديدي والتعويض على المنكوبين في واقعة خربة الغزال. وكتب إسماعيل الحريري في 19 أيلول إلى المطران ليحضر الاجتماع في شيخ مسكين مع القائد الأعلى الفرنسي لتتمّ المصالحة.“
البطريرك ديمتريوس قاضي والثورة الكبرى (1925)
نشر الأب الياس اندراوس البولسي مقالاً مسهباً عن ” المثلث الرحمة البطريرك ديمتريوس قاضي” في مجلة المسرّة لعام 1925 ص 645-706. وقد توفي البطريرك في 25 تشرين الأول 1925 ليلة عيد شفيعه القديس ديمتريوس إثر سكتة قلبية انتابته من جرّاء ضغط الأحداث إبّان الثورة الكبرى.
قصف الفرنسيّون دمشق ” وإذا بالمسيحيّين يتراكضون إلى أبيهم ورئيسهم يشكون إليه أمرهم ويقولون له إنهم مضطربون مذعورون وأنّ لا نصير لهم إلاّ بطريركهم ثمّ تراكمت البرقيّات من جميع الأنحاء، معلولا، يبرود، النبك، وجيرود وجديدة عرطوز ومحلات أخرى كلّها تصرخ وتستغيث…. عصر الأحد 19 تشرين الأول دخل دمشق بعض مئات من الثوّار وهاجموا قصر العظم (حيث القيادة الفرنسيّة) وبدأ قصف الطائرات. ” دبّ الذعر في قلوب المسلمين وتواردت وفودهم إلى بطريركيّة الروم الكاثوليك يستغيثون بغبطة البطريرك ليتواسط لدى السلطة العسكريّة فأوفد البطريرك المطران نيقولاوس قاضي والأكسرخوس استفانوس دمر فاستصحبا معهما نائب غبطة البطريرك الأرثوذكسي وقصدوا الجنرال غملان فوعدهم أنه يرفع الضرب عن المدينة الساعة 12.00 على أن يوافيه أعيان المسلمين الساعة 15.00 ووضعت الشروط“.
وتعطي “المسرّة” بعض التفاصيل عن تجاوزات قامت بها جماعات غير منضبطة تعدّوا فيها على البلدات المسيحيّة. ” دخلت معلولا عصابة رمضان شلاش ودخلت يبرود عصابة أحمد سوسق نهبوا بعض البيوت في الليل وأطلقوا الرصاص على قبّة الجرس أمّا أعيان المسلمين فكانوا يساعدون في رفع الشرّ عن المسيحيّين” (المسرّة 1925 ص 759)”.
ثورة إبراهيم هنانو
احد ثوار جبل الزاويا ضد الاحتلال الفرنسي
عارض الانتداب الزعيم إبراهيم هنانو واعتصم بالجبال وألّف حكومة وطنيّة. سافر إلى عمان ليتّفق مع الشريف عبد الله بن الحسين فاعتقله الإنكليز وسلّموه إلى الفرنسيين ، فحوكم محاكمة شغلت سوريّة عدّة شهور ودافع عنه الأستاذ المحامي فتح الله صقال، ” في الساعة الثانية بعد الظهر يوم السبت 18 آذار 1922 التأمت الجلسة الثامنة والأخيرة وأعلن الرئيس استمرار المحاكمة، فنهض المحامي الأستاذ فتح الله أفندي صقال وأخذ يدافع عن موكّله مثبتاً براءته من كل التهم الموجهة إليه. وعلى الأثر اختلت المحكمة العسكرية للمذاكرة ثم خرجت. فتلا الرئيس نحو تسعين سؤالاً كان قد طرحها على الأعضاء وأتت الأجوبة عليها بالاقتراع السري، فكانت الأكثريّة مثبّتة براءة إبراهيم بك، وأعلن الرئيس عند ذلك براءته فدوت القاعة بالتصفيق. اعتبرت ثورته “سياسة مشروعة.” وانطلق فتحوّل إلى الميدان السياسي وكان منهاجه ” لا اعتراف بالدولة المنتدبة فرنسة ولا تعاون معها.” وقد عبّر عن معارضته للمتعاونين مع فرنسا في ” حادثة الجامع الكبير”: كان زعماء الكتلة الوطنية وعلى رأسهم إبراهيم هنانو غير راضين على سياسة رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء فعرقلا الزيارة التي صمما القيام بها للجامع الكبير الجمعة 25 أيار 1934. ترد في كتاب ” حلب في مئة عام” تفاصيل الحادث (ص 163-164) ويلخصها الأب توتل في وثائق 4 ص 136: “الجمعة قدم الرئيسان العابد والحسيني للصلاة في الجامع الكبير فوجدوا إبراهيم هنانو ومناصريه قد احتلوا في الجامع المحلات المحفوظة لرجال الحكومة. فذهبا وصلّيا في غرفة منفردة. ولما خرجا من الصلاة شتمهما المتظاهرون من الطلاب فأوقف منهم البوليس 118 شخصاً وبينهم زعماء وأعيان الحزب الوطني ومنهم سعد الله الجابري ولم يوقفوا هنانو. ثم أُطلق الموقوفون إلا ستين منهم. ودُعوا إلى المحاكمة يوم الأربعاء التالي ووقف أدمون رباط محامياً عنهم وأغلقت المدينة. ” ويعطي الخوري ايلاريون عبجي روايته الخاصة للحادث في يومياته: ” يوم الجمعة 25 أيار 1934: رئيس الوزارة السوريّة باقٍ في حلب وفي هذا اليوم أسواق المدينة الداخلية مقفلة. إن الزعيم إبراهيم هنانو رئيس الكتلة الوطنية المقاومة للفرنسيين ولهيأة الحكومة الحالية يحتفل وأفراد حزبه بحفلة مولد في الجامع الأموي الكبير. فشاء الرئيس إقامة الصلاة في الجامع المذكور وقد أعدّ له مرتبة في المعبد. فأبى الكتلوّيون أن يتركوه يحتلّه فاحتلّوه هم ولم يستطع الدخول إلى الجامع فصلى في مخدع ملحق بالجامع ولقد جرى له إهانات من القوم المحتشد من عليّة القوم ورعاعه“.
وتوفي هنانو في 21 تشرين الثاني 1935. جاء في يوميات الخوري إيلاريون عبجي: ” الخميس 21 تشرين الثاني نادى المؤذنون من أعلى المآذن بوفاة زعيم الوطنيين إبراهيم هنانو: توفي في ضيعته في كفر تخاريم ويجري تشييع جثمانه في حلب يوم السبت بعد غد وسوف تشترك الطوائف المسيحيّة بهذه الجنازة ويوم الأحد 24 تشرين الثاني: ” أوفدت مع الخوري اثناسيوس كبابة من قبل سيادته بالأمس للاشتراك في تشييع جثمان الزعيم الوطني إبراهيم هنانو وأوصلنا الجنازة حتى إلى المدافن في محلة الفيض إزاء المشارقة (حيث اليوم قبر هنانو) . وكان يوماً مشهوداً لم يبق فيه أحد في منزله”.
مواقف الأديب قسطاكي حمصي الوطنيّة
قسطاكي حمصي (1858-1941)
كان قسطاكي حمصي (1858-1941) شاعراً وأديباً وقد أتينا على ذكره في نهضة حلب الأدبيّة، ومع كونه ضليعاً في اللغة الفرنسية وباتصال وثيق مع أخيه المقيم في مرسيليا لأعماله التجارية كان مخلصاً لعروبته ووطنيته وكان له مواقف مشرفة مع السلطة الفرنسية في مطلع الانتداب.
في ديوانه ثلاث قصائد وطنية تعارض الانتداب. يقول: ” في صيف سنة 1920 قام نفر من الشعوبيين في بيروت ولبنان يدعون الناس إلى الطلب من حكومتهم أن تجعل اللغة الفرنسيّة رسميّة في سائر محاكمها ودوائرها، ولكن أبى كرام القوم وجميع من تبعهم من ذوي الأصل العربي ،أن ينزلوا عند رأي هؤلاء الخوراج. فهذا الحدث المنكر ألهمني موضوع هذه القصيدة التي تغنّى بها كثير من طلاّب المدارس في حلب.” وسمّى القصيدة “البدويّة” ومطلعها:
بالله يا نسمات الرند والبان من نجد جئتن أم روض غسان
عندما أعلنت حكومة حلب، بإغراء الجنرال دو لاموت، الحكومة في الشام بانفصالها عنها قال قصيدة سماها “الحلبيّة” مطلعها:
أما لقربك بعد الهجر ميعاد فالدار في وحشة والصحب أرصاد
وآخرها:
إني أضنّ بقومي كيفما فعلوا من أن يفرّقهم غلّ وأحقاد (الشام في 1ت2 1920(
وله قصيدة طويلة سمّاها “الوطنيّة” ضمّنها ما اختلج به صدره على أثر قضية أنطاكية والاسكندرونة ويشيد فيها بمختلف مناطق بلاد الشام ويتطرّق إلى مصر والعراق وجاء فيها:
- هذي الديار ديار قومي والإلى شادوا صروح المجد غير ذميم
- ما قيمتي في القوم إن لم أنتقم من ظالم لمواطـن وحميـم
- لبيك يا وطني فأنت أعزّ من عصر الشباب وكنزي المختوم
ويقول في ختامها:
- إن خانك الحكم العسوف وأهلـه أو كان بعض الصحب شرّ غريم
- فاذكر كراما من ذويك على الوفا لن يخنعوا ولئن غـدوا كرميـم
وقد عثر بين الأوراق التي خلّفها قسطاكي حمصي على وثائق لم تنشر تظهر روحه الوطنيّة ومعارضته للانتداب الفرنسي.
في 22 تشرين الثاني 1921 بعث قسطاكي حمصي إلى الجنرال دو لاموت ممثّل المفوّض السامي يعلمه فيها أنه أسّس في حلب حزباً سمّاه “الحزب الليبرالي السوري بحلب” غايته تضافر جهود المواطنين الحريصين على مستقبل بلدهم لحسن الإدارة المحليّة والتعاون في سبيل الانسجام بين السلطة القائمة على مقدّرات البلاد وسكان دولة حلب وهذا الانسجام ضروري للحياة المشتركة والسير إلى الأمام. مركزالحزب حلب والهيئة الإداريّة مشكلّة كالتالي:
- الرئيس: السيد قسطاكي بك حمصي
- نائب الرئيس: الدكتور عبد الرحمن كيالي
- أمين السرّ: الأستاذ المحامي فتح الله صقال
- أمين الصندوق: السيد بتراكي خياط
- أعضاء: الأستاذ المحامي أديب بك درنيكا والأستاذ المحامي يورغاكي وكيل.
ويرفق قسطاكي حمصي رسالته بنسخة عن النظام الداخلي باللغتين العربيّة والفرنسيّة ويختتم رسالته: ”إننا متأكّدون بأن روح فرنسا الليبراليّة تتقبّل برضى تأسيس حزبنا الذي لا يبغي إلاّ العمل في سبيل خير البلاد بدراسات اجتماعيّة واقتصاديّة…” ثمّ التواقيع.
ولمّا تلكّأت إدارة حلب بالاعتراف بالحزب وعرقلت عمله وأهانت أعضائه، بعث قسطاكي حمصي ببرقية احتجاج عنيفة إلى المفوّض السامي بتاريخ 11 كانون الأول 1921 وفيها يشتكي من تلكّؤ حكومة حلب ويندّد بسوء إدارة الحكم الذي يقود البلاد إلى الدمار ويشبّه تعسّفه بحكم السلطان عبد الحميد، ويختم قائلاً: “الحزب يأمل إلى أن لا يضطر إلى رفع شكواه إلى مجلس نواب هيئة الأمم ليندّد بتعسّف الحاكم “. وورد من المفوضيّة الساميّة جواب ناشف بتاريخ 21 كانون الأول 1921: ” تلقيت اليوم برقيّتكم المدهشة وإني أتفهم أن حكومة حلب تتردّد للسماح بتأسيس حزب سياسي يبدي رئيسه هذا النقص في المنطق والنضوج السياسي. إنّ دراسة الرخصة التي تطلبونها موكولة للمستشار القانوني للمفوّضيّة وبناء على رأيه سآخذ قراري وليس استناداً إلى مطالبات ترد في رسالة، اسمح لي أن أقول لك، لهجتها ليست بلائقة.” ويبدو أن هذا الحزب لم يتمكّن من ممارسة نشاطه.
وفي 1 أيار 1922 كتب رسالة طويلة إلى ابن أخيه العائش في فرنسا يندّد فيها بأساليب الاستعمار الفرنسي وقال: ” قد أتفهم أن السوريّين الذين غادروا البلاد إبّان حكم عبد الحميد يعتبرون أنّ وجود الدولة الفرنسيّة مع جيشها هي نعمة للبلاد، ذلك أنّهم لم يختبروا أساليب الاستعمار والتعالي التي يمارسها الفرنسيّون غير آبهين بعقليّة السكّان ومصالحهم. هناك روح تسلّط وانعدام الأمن وقد سلّم الفرنسيّون الإدارة لأحد عملاء السلطان عبد الحميد العديم الثقافة، والمستشارون الفرنسيّون مستبدّون ولا يعرفون لغّة البلاد. ولم تستطع فرنسا أن تقدّم للبلاد العون الاقتصادي الذي تحتاج إليه، فالشعارات التي يطرحها رجال الجمهوريّة الثالثة بالحريّة وتحرير السكّان هي زائفة وقد نقلت البلاد من استعباد إلى استعباد آخر.” وطلب من نسيبه أن ينشر مضمون الرسالة في الصحف الفرنسيّة من دون الإشارة إلى اسمه، ليطّلع الرأي العام الفرنسي على الأوضاع في سوريّة ويعرف زيف ادّعاءات السلطات بأن سوريّة استقبلتهم بحفاوة وهي مزدهرة في عهدهم. ولا ندري إن كانت الرسالة قد نشرت.
مساهمة المسيحيين في إدارة الدولة
بعد تهدئة ثورة جبل العرب وثورة الغوطة دعا المفوض السامي إلى تشكيل حكومة جديدة موقّتة تشرف على انتخابات اللجنة التأسيسيّة التي تضع الدستور الدائم للبلاد وفاز من بين المسيحيّين النواب: فتح الله اسيون، فائز الخوري، نقولا جانجي، توفيق داود، جورج صحناوي، جورج عازار، فاضل عبود، داود الريحاني، وكان في هيئة المكتب فتح الله اسيون وفائز الخوري ونقولا جانجي. حلّ المفوّض السامي المجلس قبل انتهاء عمله لأنّه لم يأخذ بعين الاعتبار واقع الانتداب.
وفي عام 1932 تمّ انتخاب مجلس نيابي جديد وكان أعضاؤه المسيحيّون: نقولا جانجي، هراج بابازيان، هنري هنديّة، سليم جنبرت، موسيس دير كالوستيان، وسليم خوري. وكان في هيئة إدارة المكتب سليم جنبرت وموسيس دير كالوستيان. وفي 25 تشرين الثاني 1933 أصدر المفوّض السامي قراراً بتعطيل المجلس لأنّه لم يوافق على صك معاهدة مع فرنسا لم ترضِ تطلّعات الوطنيين.
وفي عام 1936 شكُّل وفد سوري رسمي ليتوجّه إلى باريس للتفاوض في سبيل معاهدة تمنح الاستقلال للبلاد مع بعض الامتيازات لفرنسا. ضمّ الوفد ثمانية أعضاء منهم اثنان مسيحيّون: فارس الخوري وادمون حمصي، وكانوا من الكتلة الوطنيّة التي تأسّست عام 1934. وأُجريَ لأعضاء الوفد استقبال حافل في حلب لدى عودته عن طريق القطار باريس – حلب. وشاركت وأنا طفلٌ بهذا الاستقبال الذي ترك أثراً كبيراً في ذاكرتي. وقد اجتمع بالرؤساء الروحيّين المسيحيّين.
ودعا المفوّض السامي إلى إجراء انتخابات نيابيّة فازت فيها الكتلة الوطنيّة بأغلبيّة ساحقة وفاز عن حلب هرانت صلاحيان، بدروس ملتباشيان، ادمون حمصي، فتح الله اسيون، ادمون رباط (5 مسيحيّون مقابل 6 مسلمين)، وعن دمشق وبقية المناطق فارس الخوري، جورج صحناوي، عبد الله فركوح، سعيد الحق، داود الريحاني. وانتخب فارس الخوري رئيساً للمجلس.
وتعطّلت الحياة الدستوريّة بسبب أحداث سلخ لواء إسكندريون، واندلاع الحرب العالميّة الثانية. وإثر المظاهرات المطالبة بالاستقلال دُعي عام 1943 إلى انتخابات جديدة فاز فيها عن حلب موسيس سلاطيان، هراج بابازيان، جوزيف اليان، ميخائيل اليان، فتح الله اسيون، لطيف غنيمة، ميشيل رفيع (7 من أصل 16) وعن دمشق وبقية المناطق نظريت يعقوبيان نعيم انطاكي، جورج صحناوي، فارس الخوري، عبد الكريم فركوح، وديع سعاده، الياس عبيد ويوسف الحامد.
وشغل المسيحيّون عدّة مناصب وزاريّة حتى أصبح فارس الخوري رئيساً للوزراء.
في عهد وزارة الجابري مطلع الانتداب أسندت وزارة الماليّة إلى فارس الخوري والاقتصاد إلى يوسف الحكيم، ولمّا عُيّن محمد علي العابد أول رئيس للجمهوريّة عام 1932 قامت الوزارة الأولى برئاسة حقّي العظم وضمّت ثلاثة وزراء مسيحيّين شغل فيها سليم جنبرت وزارة الأشغال العامة والاقتصاد. وتسلّم سليم جنبرت في الوزارة الثانية المعارف والأشغال العامة.
في وزارة الشيخ تاج الدين (1934-1936) كُلّف هنري هنديّة بوزارة الماليّة. وفي وزارة عطا الأيّوبي (شباط 1936) شغل ادمون حمصي وزارة المالية وفائز الخوري وزارة الاقتصاد.
المجلس النيابي الذي انتخب عقب عودة الوفد من باريس افتتح جلساته في دمشق في 21 كانون الأول 1936 وقدّم رئيس الجمهوريّة محمد العابد استقالته وكذلك استقالت حكومة عطا الأيّوبي وانتخب هاشم الأتاسي رئيساً للجمهوريّة وفارس الخوري رئيساً لمجلس النواب وكُلّف السيد جميل مردم بك بتشكيل الوزارة الجديدة. ولم تضُم أيّ شخصيّة مسيحيّة. ويعلّق الأب ايلاريون عبجي على ذلك في يوميّاته: ” وصلت الأنباء معلنة أخبار المجلس السوري، استقال محمد علي العابد رئيس الجمهوريّة وخلفه رئيس الوفد السوري هاشم الأتاسي وتوزّعت الوزارات على السادة سعد الله الجابري، عبد الرحمن الكيالي، جميل مردم والقوّتلي. ونودي بفارس الخوري رئيساً للمجلس ولكنّ هذه الأنباء قد أدهشت الأمّة فلا ذكر للمسيحيّين في الوزارات. فأين الوعود بالمساواة والأخوّة؟ “
بعد أن تراجعت فرنسا عن تصديق معاهدة 1936 وسُلخ لواء اسكندرون استقالت حكومة مردم بك في 18 شباط 1939 فكلّف الرئيس هاشم الأتاسي لطفي الحفّار بتشكيل وزارة جديدة، وأسندت إلى فائز الخوري وزارة المالية ووكالة الشؤون الخارجيّة وإلى سليم جنبرت وزارة الاقتصاد الوطني. سقطت الحكومة بعد 42 يوماً فكلّف الرئيس نصوح البخاري بتأليف وزارة جديدة حافظ فيها سليم جنبرت على حقيبته الوزاريّة. وعلى أثر سلخ لواء الاسكندرون بشكل نهائي استقال هاشم الأتاسي من رئاسة الجمهوريّة واستقالت حكومة نصوح البخاري فاصدر المفوّض السامي قراراً بتشكيل حكومة المديرين برئاسة بهيج الحكيم، وكلّف فيها يوسف عطا الله بالاقتصاد الوطني وعلى اثر استقالة حكومة المديرين أصدر العميد السامي الجنرال دانتز في 2 نيسان 1941 القرار بأن يتولّى السلطة التنفيذيّة رئيس حكومة يعيّنه المفوض السامي، فعُيّن خالد العظم رئيساً لحكومة دولة سوريّة واستلم فيها فائز الخوري وزارة الماليّة، وعيّن تاج الدين الحسيني رئيساً للجمهورية. وتشكّلت وزارة جديدة مطلع 1943 برئاسة جميل الالشي واستلم فيها فائز الخوري وزارة الخارجيّة. وتوفي رئيس الجمهوريّة تاج الدين الحسيني وعادت الاضطرابات الشعبيّة فاستقالت حكومة الالشي وكلّف الجنرال كاترو السيد عطا الأيوبي بتشكيل حكومة انتقاليّة إلى حين إجراء انتخابات دستوريّة، فتشكّلت الحكومة في 25 آذار 1943 وكان فيها نعيم أنطاكي وزيراً للخارجية والأشغال العامة.
وبعد انتخابات تموز 1943 التي فازت بها الكتلة الوطنيّة بأغلبيّة المقاعد انتُخب شكري القوتلي في 17 آب رئيساً للجمهوريّة وفارس الخوري رئيساً لمجلس النواب وسعد الله الجابري رئيساً للحكومة وتعيّن فيها توفيق شاميّة وزيراً للزراعة والتجارة. واستلم فارس الخوري رئاسة مجلس الوزراء في 14 تشرين الأول 1944 وعُدّلت وزارته عدّة مرّات وكان من بين وزرائها نعيم أنطاكي (المالية)، حكمت الحكيم (أشغال عامة)، مخائيل اليان (الخارجية، أشغال عامة ومواصلات، حنين صحناوي وزير الاقتصاد الوطني، فتح الله صقال وزير الأشغال العامة والمواصلات. وفي عهد حكومة فارس الخوري أعلنت سوريّة الحرب على ألمانيا واليابان. فدُعيت إلى المشاركة بمؤتمر سان فرانسيسكو الذي عُقد بعد اندحار ألمانيا واليابان أواخر عام 1945. ومثّل فيه سوريّة رئيس الوزراء فارس الخوري.
أوضاع المسيحيّين في عهد الانتداب
ساهم المسيحيّون في معركة الاستقلال وتابعوا في عهد الانتداب بناء الوطن من الوجهتين الثقافيّة والاقتصاديّة وكان معظم الوجهاء والزعماء قد عاصروا العثمانيين. والجيل الجديد كان دعامة للمؤسسات الحديثة. ونُظّمت تحت إرشاد الفرنسيّين أطر سكك الحديد ومؤسسة الكهرباء والمياه والمصارف وانخرط العديد من المسيحيّين في الدرك والجيش وكانوا نواة الجيش السوري. ولم تتبدّل أحوالهم المعيشية وأوضاعهم القانونية كثيراً عما كانت عليه في أواخر العهد العثماني وتابعوا أعمالهم التجارية في المدينة، وبنوا معامل نسيج ميكانيكيّة. واعترفت الدولة المنتدبة بالطوائف القائمة وبالأحوال الشخصيّة، وأصدر المندوب السامي دي مارتيل القرار رقم 60 ل.ر بتاريخ 31 آذار 1936 المعدل بقرار 146 ل.ر بتاريخ 18 تشرين الثاني 1938، وفيه يحدد الطوائف المعترفة بها وينظم شؤون الأحوال الشخصيّة. وأحتجّ العلماء المسلمون على هذا القرار لأنه يعتبر المسلمين طائفة من بين الطوائف ويناقض الشرع الإسلامي. ” فالبند 11″ مثلاً يقرّ لمن وصل إلى سن البلوغ بحق الانتقال بملء حرّيته من مذهبه إلى أي مذهب آخر معترف به وهذا ما لا يقبله الدين الإسلامي الذي يحكم على المرتدّ بالموت ويوعده بالعذاب الأبدي في الآخرة وكذلك يتيح للمسلمة من الزواج من غير المسلم. ووضع العلماء الحكومة أمام مسؤوليّاتها في حال عدم سحب هذا القرار لما قد يحدث من ثورة للدفاع عن المقدّسات. فأوقف المفوّض السامي مؤقتا تنفيذ القرار وطلب رأي لجنة خاصة ألّفتها الحكومة السوريّة. وأيّد أعضاء اللجنة المسلمون رأي المشايخ وطلب العضو المسيحي يوسف بك الحكيم أن يؤخذ برأي الرؤساء الروحيين المسيحيين. فوجّه الأساقفة الكاثوليك في 28 آذار 1939 مذكّرة للمفوّض السامي يطلبون فيها الحفاظ على القرار لأنه يتوجب على السلطة المدنيّة أن تكون فوق المذاهب وتؤمّن الحريّة والمساواة بين جميع المواطنين، ولا تفرض وجهة نظر الأغلبيّة على الأقليّة. فالديانة المسيحيّة تحرّم على المسيحيّين ترك دينهم كما الإسلام يحرّم على أعضائه الانتساب إلى دين آخر. لِمَ يقبل القانون بأن ينتقل المسيحي واليهودي إلى الإسلام ولا يجيز للمسلم أن يغيّر دينه إن لم يعد مقتنعاً به؟ إلا أن السلطة المنتدبة تراجعت عن قرارها تحت ضغط الشارع الإسلامي فأصدرت في 30 آذار 1939 المرسوم رقم 53 الذي يستثني المسلمين من قانون الأحوال الشخصية الذي احتجّوا عليه. وظل للشرع الإسلامي الكلمة العليا حال تضارب الشرعين الإسلامي والمسيحي، وكان هناك طرف مسلم. وكذلك ظل المسيحيون خاضعين للشرع الإسلامي لا البيزنطي في أمور التوريث. ففي 30 ك2 1930 عقد المجلس الأعلى في دمشق وقرر أن مواريث نصارى الشرق يحكم فيها بموجب الشرع الإسلامي. صدر الحكم بمناسبة الدعوى التي رفعها أبناء أخت المرحوم رزق الله غزالة طبقاً للشرع البيزنطي مطالبين فيها بما ظنوه حقهم من تركة خالهم. (توتل وثائق 4 ص129(
التعايش المسيحي الإسلامي
في 17 آذار 1925 زار الرؤساء الروحيّون الجنرال سراي المفوض السامي في حلب وقالوا له: “إنّ الوفاق مستتبّ منذ قديم الزمان بين الطوائف على اختلاف أديانها وليس في حلب تعصّب ديني. “
وأتي إلى حلب خلفه دي جوفنل. وجاء في خطاب ترحيبي ألقاه أحد تلامذة مدرسة التجهيز بحضور دي جوفنل:
” إنّ أرواحنا تمازجت في هذه المدرسة على اختلاف أدياننا وإنني أُشهد على قولي رفقائي الطلبة المسلمين الذين نعيش وإياهم على اتّفاق وسنظلّ على هذه الخطّة دارجين متى خرجنا من هذا المعهد إن شاء الله. “
حادثة سوق الأحد:
تعكرّ جوّ التآخي في حلب في هذه الفترة “بحادثة سوق الأحد” قال الخوري ايلاريون عبجي في يوميّاته: ” يوم الأحد11 تشرين الأول 1936. في هذا اليوم الساعة الحادية عشرة إفرنجية قبل الظهر حدث فتنة عظيمة بين المسيحيّين والمسلمين في سوق الأحد، وينسبون هذه الفتنة إلى مصادر شتّى والمسلمون يتمسّكون بمصدر واحد وهو “الشارة البيضاء” ويرى القارئ تفاصيل هذه الحادثة المريعة في الجرائد. عدد القتلى ثلاثة، اثنان مسيحيّان وشاب مسلم، وعدد الجرحى يقدّر بستين، مسيحيّين وإسلاما. وبقيت الثورة تشتعل بنيرانها إلى الساعة الثانية بعد الظهر لطف الله بعباده.” وساد التخوّف في الأحياء الشعبيّة المسيحيّة لفترة. وأذاع الرؤساء الروحيّون في اليوم الثاني بياناً نفوا فيه نسبة ” فتنة سوق الأحد” إلى النعرات الدينيّة. وكانت قد نشبت بين المسلمين والمسيحيّين لأسباب فجائية تافهة ودامت ساعتين وذهب ضحيّتها ثلاثة أشخاص. وتبادل الزيارات السادة الأساقفة وأعضاء الكتلة الوطنيّة. واعتقل عدد من “الشارة البيضاء” وغيرهم قيد التحقيق.”
وإنًّ المناضل عبد الرحمن كيّالي يروي الحادث في كتابه ” المراحل في الانتداب الفرنسي وفي نضالنا الوطني من عام 1936-1939″ (الجزء الرابع ص 310-311)، ويعطي وجهة نظره للأسباب، حزب الشارة البيضاء: “إنَّ جمعيّة (الشارة البيضاء) جمعيّة دينيّة كاثوليكيّة، غذّاها بعض رجال المفوّضيّة، ودوائر الاستخبارات. أُسّست في حلب، وفي الجزيرة، واتّخذ أعضاؤها إشارة لهم القميص الأبيض، والسروال الأزرق، وكانوا كلّهم من المسيحيّين الكاثوليك، ومن السريان الكاثوليك في الجزيرة، يرأسهم المطران “حبي”. أمّا غايتهم الظاهرة فالدفاع عن حقوق المسيحيّين، وتنظيم وحدتهم، ولكن غايتهم الخفيّة كما ثبت هي تحريك الطائفيّة، وتهيئة مجزرة بين المسلمين والمسيحيّين تسيل فيها دماء الطرفين، كي تُنشر أخبارها في العالم، وتعيد ذكرى واقعة “الستين” في دمشق، وتضطرّ فرنسا للمداخلة وإبقاء جيشها، وإبطال معاهدتها، وهذا ما تريده الفئة الأولى التي أشرنا إليها. وكان يرأس الجمعيّة بحلب المدعو عبود قنباز، شقيق جبرائيل غزال من والدته، وهو من موظّفي الجيش الفرنسي سابقاً، ورئيس فرقة الجواسيس أيّام الجنرال “دو لاموط” بحلب، ثمّ أحالته السلطة على التقاعد، ففتح لنفسـه مكتباً للاستخدام، وبقـي متّصلاً بدوائـر المندوبيّة. ولمّا اشتدّ ساعد الجمعيّة وكثر عدد المنتسبين لها، وعلمنا بخطرها، وأنّها تعمل لمقاومة الحرس الوطني، وتهيّئ الجوّ لفتن لا يعلم مداها. أخبرنا الحكومة المحليّة ونبّهناها إلى الخطر فلم تكترث.
وفي 11 تشرين الأوَّل سنة 1936، بدأت الفتنة في سوق الأحد باعتداء أحد المسيحيّين على امرأة كانت تبيع البرغل، وعلى ما قيل شتمها، فتدخّل الحاضرون، وكان فيهم المسلم والمسيحي، وتلاسنوا وتشاتموا، ثمّ اشتدّ الخصام بينهم، ولمّا لم تعمد الشرطة حالاً على خنق الفتنة لجأ المتخاصمون إلى السلاح، وأخذوا يطلقون النار، فقتل اثنان من المسلمين وثلاثة من الأرمن، وجرح خمسة وعشرون شخصاً.
وعلى إثرها احتشدت جموع المسلمين وتراكضت من كلّ محلّة متسلّحين، وتوجّهت إلى محلاّت المسيحيّين في الشرعسوس، وقسطل الحرامي، وأقيول. وتراكض أيضاً المسيحيّون وهم مسلّحون لملاقاتهم من الحميديّة، والجابريّة، والسليمانيّة، وكادت المجزرة تحدث، لولا أن ركبتُ أنا (عبد الرحمن كيالي)، والدكتور حسن فؤاد، والشيخ عبد القادر السرميني، ومعنا بعض الأخوان في العربة، وأسرعنا إلى محلّة الحادثة، ووقفنا نصدّ الطرفين وننادي: “أجسامنا أوّلاً ثمّ هجومكم. ارجعوا، ولا تزيدوا الفتنة ناراً.” فرجع الطرفان.
ثمّ جاءت قوى الدرك والشرطة، وفرّقت المتظاهرين، وألقت القبض على المتّهمين وساقتهم إلى السجن، ورابطت في الطرق، والساحات، وانتهت الفتنة.
ولدى التحقيق تبيّن حقيقة ما قلناه عن الجمعيّة، إذ داهمت الشرطة مراكز جمعيّة الشارة البيضاء، وجمعت الأوراق والوثائق وأرسلتها إلى العدليّة، التي حقّقت فانجلت لها أمور لا تحمد (تبيّن أنَّ المسيو دافين في المفوّضيّة العليا، وبعض الضبّاط في دائرة الاستخبارات في الجيش الفرنسي، كانوا من الموحين بتشكيل هذه الجمعيّة، وهم الذين مدّوها بالمال والمساعدة، وهي تشبه تمام الشبه بأصحاب القمصان البيض في لبنان، والتي سمّيت فيما بعد “بالكتائب اللبنانيّة”). وبقي الموقوفون في السجن والأوراق لدى العدليّة إلى أن تولّيت وزارة العدليّة.
وكان قد صدر قرار بحلّ الجمعيّة فانحلّت, وانحلّت دعايتها, ولم يبقَ لها أثر, فأصدرتُ عفواً عن الجميع, واحتفظنا بالأوراق تحاشياً من إثارتها, وإيراد أسماء من كان من أركانها ومتزّعميها”.
وقد كتب السيّد عبود قنباز ردّاً على ما جاء لدى عبد الرحمن الكيّالي عُثر عليه في الأوراق التي تركها إثر وفاته، وفيه يلقي الضوء على الأسباب التي دعت إلى تأسيس جمعيّة الشارة البيضاء ويبرّر الجمعيّة مما نسب إليها. ويقول: إنَّ المسيحيّين كانوا متفقين مع المسلمين ويعملون معهم يداً بيد في النضال الوطني، ممّا أزعج الفرنسيّين فحرّكوا بعض الدسّاسين والمخرّبين لإيقاع الفتنة. فأخذوا يتحرّشون بالمسيحيّين في سوق الجديدة. ولم يتمكّن زعماء الكتلة الوطنيّة من ردعهم. فتأسّس حزب الشارة البيضاء.
إنَّ شعار الحزب كان علماً أبيض وهو إشارة السلام. وتشكّل هذا الحزب لحماية المسيحيّين في شهر أيّار عام 1936، للدفاع عن النفس من التفرقة الدينيّة وكان الحزب مرخصاً بقانون وقد ضمّ مسلمين، منفصلين عن الكتلة، إضافة للمسيحيّين وإنّه لم يكن يرغب بالتفرقة الدينيّة أبداً ولا الطائفيّة وهذا خلاف لما ذكره كتاب “المراحل” الجزء الرابع بالصفحة 310 و 311. إنَّ حزب الكتلة الوطنيّة كان يرغب أن يكون حزبه فقط المسيطر على البلاد وله السلطة المطلقة على البلاد وكان حزب الإشارة البيضاء يطلب الاطّلاع على سير أعمال الكتلة الوطنيّة ولكن الحزب رفض وهنا حصل خلاف ما بين الحزبين. وأراد حزب الكتلة الوطنيّة التخلّص من هذا الحزب فقام باتهامه بأشياء كثيرة بالتفريق الديني وإلى ما هناك من اتهامات لا أساس لها، ولم يكن لـه أي اتصال مع السلطات الفرنسيّة المنتدبة أبداً ولم يساعدوه. إنَّ حزب الشارة البيضاء كان حزباً غايته السلام والمحبّة بين المواطنين وكان يتمشّى مع تعاليم الإنجيل وهي المحبّة الأخويّة والتعاون مع الأخوة ولا فرق بين مسلم ومسيحي والجميع مخلوقات الله. إنَّ الحزب الوطني إذ أراد السيطرة خلق مشكلة حادثة سوق الأحد المقصود منها إلغاء حزب الشارة البيضاء وتهمته بتدبير الخلافات”.
على إثر حادثة سوق الأحد أخذ العديد من الأسر المسيحيّة تنزح من الأحياء التي كان يتعايش فيها المسيحيّون والمسلمون بسلام طيلة قرون. جاء في يوميّات الخوري ايلاريون عبجي في 28 تشرين الأول 1936: “مراجعات من أهالي المسجونين من أعضاء “الشارة البيضاء” والسعي متواصل من قبلي بهذا الشأن وأعضاء الكتلة الوطنيّة يساعدون جداً لإطلاق سراح المسجونين. ذهبت إلى المجلس المختلط من مسيحيّين ومسلمين في بيت الأمّة وجرى البحث في إرجاع بعض المسيحيّين إلى دكاكينهم ودور سكنهم التي غادروها في الأحياء الإسلاميّة من تكرار تعدّيات المسلمين أو خوفاً. “
وإنّ الصحفي فكتور كالوس يرى في الحادث مؤامرة حاكتها السلطات المنتدبة لتبرّر ضرورة بقائها في البلاد. ويروي تفاصيل الأحداث في كتابه “رمال في الهواء حكايات وذكريات” الجزء الأول ص 20-21 معتمداً على ذاكرته لكنّه كان صغير السن وفي روايته أمور غير دقيقة وقد أشرت إليها في كتابي الحضور المسيحي في حلب جزء 2/2 ص 53.
مواطنية غير المسلمين ما بين شكيب أرسلان وسعد الله الجابري
وعاد إلى البلاد عدد كبير من الزعماء المبعدين إذ صدر عفو شامل. ويقول الخوري ايلاريون في يوميّاته: يوم الثلاثاء 8 حزيران 1937 ذهبت مرافقاً سيادة راعي الأبرشية إلى بيت الأُمّة للسلام على المجاهدين الأمير شكيب أرسلان وإحسان الجابري المقيمين في جنيف وغيرها والمبعدين منذ ما ينيف عن العشرين عاماً.
في 21 حزيران ألقى شكيب أرسلان الدرزي خطاباً يوم الجمعة في الأموي أحدث رجّة عظيمة في الأوساط غير الإسلامية لما فيه من إثارة النعرة الطائفيّة لأنه حصر الوطنيّة في المسلمين دون سواهم أراد أن يتودّد للمسلمين فأغضب المسيحيّين والدروز معاً. ويقول الخوري ايلاريون عبجي في يومياته: “يوم الاثنين 14 حزيران قائمة قيامة الجرائد بحلب حول خطاب شكيب أرسلان في الجامع الكبير يوم الجمعة الماضي (11 حزيران) بخصوص الإسلام إذ قال: من لم يعتقد بالإسلام لن يكن وطنيّاً إلى غيرها من العبارات تولّد الظن وتكشف القناع عن أفكار وأميال تكنّها القلوب.”
وفي 1 تموز ردّ إحسان الجابري الزيارة لرؤساء الأحياء المسيحية في قاعة النادي الكاثوليكي. وقال في خطابه ” لقد كنّا أبناء هذه البلاد إخواناً قبل محمد وغيره من الأنبياء. “(توتل 4 ص 142)
وفي أواخر آب ألقى سعد الله الجابري وزير الداخلية خطاباً أكثر حكمة في جامع حلب قال فيه:
“إن في هذه البلاد كثرة تدين بالإسلام وفيها من يدينون بغيره. وإنّ كياننا وطنيّ قوميّ لا يقوم في شيء على أساس طائفي فمن كان يشقّ عليه ذلك يجب أن يذكر أنّ المسلم إذا أراد أن يعيش في بلاده حرّاً مرتاحاً عليه أن يعمل على إقناع غير المسلم أنه يريد أن يعيش معه على أساس الأخوّة القوميّة والرابطة الوطنيّة.إنّ هذا الاقتناع تمكّن وأصبح يقينا عند غالب الناس وإنه يجب أن يصبح يقيناً عند الناس كافة. والماضي أورث عند فريق غير المسلمين مخاوف وشكوى ومن حسن الرأي أن نعترف بوجودها لتوجيه الجهود إلى معالجة ما تبقّى منها في رفق وتطمين وإقناع وتضحية. وإذا كان واجب المسلم ما ذكرناه فعلى غيره واجب مثله وعلى بعض الأفراد من الطوائف الأخرى أن لا يذهبوا مذاهب الغواية فيباعدوا ما بينهم وبين إخوانهم. وإذا كان من مصلحة المسلم أن لا يعتمد على غير سياسة التفاهم مع غير المسلم فمن مصلحة غير المسلم أن لا يعتمد بالنتيجة على غير سياسة التفاهم مع المسلم.”
وجاء في توتل وثائق تاريخيّة عن حلب 2 ص 129: احتفلت الشهباء بالذكرى الثالثة لوفاة هنانو. خطب سعد الله الجابري وقال في قضيّة الأقليّات: “إن قضيّة الطوائف نحن لا ننكرها فمن يعالج داء يجب أن لا ينكره. وهذه القضيّة نريد أن نعالجها معالجة أساسيّة فلا ندع هذه الأقليّات تتخوّف من السير بجانبنا. وإنني سأعالج كل قضيّة تتعلّق بشؤون الطوائف والأقليّات لأن هذه الشؤون تتصل بإخوان سأعيش أنا وأنت معهم إن شئنا أم أبينا ويعيشون هم معنا جنباً إلى جنب شاءوا أو أبوا.“
بيان عام 1941
وحرص الرؤساء الروحيّون المسيحيّون على حفاظ الوئام مع الأخوة المسلمين. ويوم السبت 26 نيسان 1941 عقد السادة الأجلاء اجتماعاً في مطرانية السريان مؤلّفاً من حضرات رؤساء جميع الطوائف المسيحيّة وقد حضر الاجتماع السيدان إحسان بك الجابري وإسماعيل بك كيخيا وقد افتتحت الجلسة بكلمة ألقاها إحسان بك حول اتفاق مختلف الطوائف فذكر إحسان بك ضرورة تأليف جبهة مسيحيّة إسلاميّة تقف سدّاً منيعاً في وجه بعض ذوي الغايات حائلة دون ما يرونه من زرع بذار الخصام والشقاق بين المسيحيّين والمسلمين وقد وافق المجلس الخطيب على رأيه إذ أن غاية ما يتمناه المسيحيّون هو أن يعيشوا بسلام ووئام مع إخوانهم المسلمين. وقبل انتشار عقد الاجتماع قرّر المجلس وضع كتاب يوقعه رؤساء جميع الطوائف المسيحيّة والإسلاميّة يحرّضون فيه الحلبيّين على الخلود إلى السكينة والوئام نابذين أقوال المرجفين المفسدين. ثم رفعت الجلسة على أن تعقد الاثنين القادم بحضور القاضي والمفتي. ويوم الاثنين 28 نيسان عقد المجلس اجتماعه في مطرانية الروم الكاثوليك وقد حضر الاجتماع رؤساء جميع الطوائف المسيحيّة والإسلاميّة وفي مقدّمتهم المفتي والقاضي. أما الحديث فقد دار حول وضع بيان مشترك بين المسيحيّين والمسلمين. وبعد البحث قرّ الرأي على وضع بيان يوقّعه رؤساء جميع الطوائف المسيحيّة والإسلاميّة فيه يدعون مرؤوسيهم إلى التآخي. وقد وضع البيان ووقّعه رؤساء الطوائف ثم طبعت منه عدة نسخ ووُزّعت في مختلف الأحياء ونُشرت في الجرائد الحلبيّة.
ولاء المسيحيين للسلطات الوطنيّة
حرص المسيحيّون على إظهار وطنيّتهم وولائهم للسلطات الوطنيّة.
في 4 نيسان 1944 لبّى شكري القوّتلي رئيس الجمهوريّة السوريّة دعوة الطوائف المسيحيّة في النادي الكاثوليكي فاستقبل في قاعة الحفلات وكان عدد كبير من النوّاب ورجال الدين من مختلف الطوائف والصحفيّين مدعويّن لهذا الاستقبال. وخطب المطران ايسيدورس فتّال مطران الروم الكاثوليك ومطران الأرمن الأرثوذكس وألقى أنطوان شعراوي قصيدة فردّ الرئيس وبحث قضيّة الأقليّة والأكثريّة وقال: “إنّ كلّ بلاء كان ينزل في البلاد سببه هذه القضيّة وإن نتائجها كانت تصيب الأكثريّة والأقليّة سواء بسواء.” ثم أعلن فخامته في كثير من الصراحة أنّه يريد أن تكون الحقوق متساوية ولا يغمط حق رجل مهما كانت الهيئة أو الطائفة أو الفئة التي ينتسب إليها.
ولما ثار المتظاهرون ضد الفرنسيّين في أيار 1945 راح بعضهم يعتدون على الكنائس والأديرة الأجنبّية وشجّع المستعمرون من إنكليز وفرنسيّين هذه الظاهرة ليبرّروا ضرورة بقائهم” لحماية الأقلّيات” إلا أن الرؤساء الروحيّين رفضوا هذه الحماية وأظهروا ثقتهم بالسلطات الوطنيّة وأزالوا التخوّفات التي اعترت البعض لدى انسحاب جيوش الدولة المنتدبة.
مواقف المطران ايسيدورس فتال الوطنيّة
وفي أواخر أيار 1945 قامت الاضطرابات ضد الفرنسيّين وتعدّى بعضهم على بعض المراكز الدينيّة المسيحيّة بغية إشعال الفتنة، وكان للإنكليز إصبع في الأمر. وعرض قائد الأمن الإنكليزي على المطران فتّال حماية الجيوش البريطانيّة للمراكز المسيحيّة فأبى وكان الصحفي فكتور كالوس في معيّة القائد البريطاني وهو يروي الحادث عدّة مرات في مذكّراته بتفاصيل مختلفة. (حكايات وذكريات المجلد الأول ص 63-67, المجلّد الثاني ص 89-93، ص 107-108) وكان أتى على ذكرها باختصار في مجلّة السنابل عدد 374 ونقلت عنها نشرة أبرشيّة حلب في العدد الخاص عن المطران فتّال عام 1961 ص 37.
يعرّف فكتور كالوس بالمطران فتّال وبالأوضاع السياسيّة العامة: لقد كان المطران فتّال وهو الأديب الكبير صاحب كتاب المشوّق والمربّي الذي تخرّج على يديه أساتذة في القانون والعلم والأدب في سوريّة ولبنان وفلسطين ومصر – لا أريد هنا أن أؤرّخ حياته – قد اختير في العام 1943 (يقول خطأ 1942) مطراناً على مدينة حلب، وكان من قبل راعي كنيسة مار جاورجيوس في الشرعسوس حيث الحيّ الذي يقطن فيه مسلمون ومسيحيّون بعضهم إلى جانب بعض متجاورين في الحب والتعاضد. وأبرشيّة حلب للروم الكاثوليك هي أكبر أبرشيّة كاثوليكيّة في ذلك الزمن ومن أخصب أبرشيّات المسيحيّين ثقافةً وتوعية ورجالاً من الوجهاء كانوا أم من الشعب. إنّهم قبضايات في الحياة والنخوة والرجولة. وقد ضمّت هذه الأبرشيّة خليطاً عجيباً من الأقوام حتى أصبحت مركزاً لكلّ حركة اجتماعيّة تتعلّق بالاتجاه العام في البلاد. وقد وُلّي المطران فتّال زمام الأبرشيّة والوطن السوري يجتاز حقبة مصيريّة بين الاستقلال والانتداب الذي صار انتدابين إنكليزي وفرنسي وذلك بعد انكسار فرنسا عام 1940 ودخول الفرنسيّين الأحرار والإنكليز إلى سوريّة ولبنان وخروج أنصار بتان منها… وكان بديهيّاً أن يتقاتل الإنكليز والفرنسيّون الأحرار على الحكم في سوريّة. وانطلق الشعب السوري ينتقم من الفرنسيّين على مرأى من القوات الإنكليزيّة المعسكرة في دبّاباتها في شوارع المدن تحرس المؤسّسات العامة من التهديم والحرق والتدمير. وسألني قائد مكتب الأمن الإنكليزي في حلب أن أُرافقه في زيارة المطران ايسيدورس فتّال. فقلت: أيمكن أن أبلّغه بالزيارة حتى لا يفاجأ؟ قال: لا مانع، بلّغه. وذهبت إلى المطران فتّال وكانت صداقة عميقة تجمعني به. فقلت: سيدنا إن الكومندان شو يريد زيارتك، يرافقه معاونه. وحدّد المطران موعد الزيارة الساعة السادسة مساءً في بهو المطرانيّة. فجاء الكومندان شو ومعه معاونه فاستُقبلوا من قبل المطران أحسن استقبال، وقد شجّعهم بدماثة أخلاقه على الانشراح بالكلام، وكان الكومندان شو يتقن الفرنسيّة اتقاناً كاملاً وبلهجة باريسيّة صحيحة فأخذ يشرح للمطران مهمة الجيش الإنكليزي في المحافظة على الأمن في سوريّة وطبعاً منها حلب، ويكرّر أنه لا يريد ولا يسمح بوقوع اعتداء على الكنائس والقسس والرهبان والراهبات أو اصطدامات بين المسلمين والمسيحيّين على الإطلاق، وكان يتوسّع في هذا السرد ويطرح أسئلة على سيادة المطران منها ماذا سيكون موقفه فيما إذا وقعت الواقعة وأيّة قوّة يستدعي لتدافع عن المغلوب على أمره أو لوقف التعدّي. وكان المطران فتّال كعادته يسمع وعيناه مغلقتان إلى أن وصل الكومندان إلى ناحية مهمّة فقال: ألا ترى سيادتك أن نرسل قوّة تحافظ على مدخل الكنيسة وتغلق المنافذ المؤدّية إليها؟ وهنا انتفض المطران فتّال من غفوته العابرة وحدّق بالميجر شو وقال له:
” أيّة قوّة تعني يا حضرة الميجر. أهي القوة البريطانيّة أم السوريّة،
وقبل أن يجيبه عن سؤاله فوجئ الميجر شو بالردّ:
“إنّ المطران فتّال إذا احتاج إلى حماية فلن يطلب إلاّ حماية أبنائه السوريّين. فالدرك السوري موجود ويستطيع أن يحمي لا مطرانيّة الروم فقط بل الوطن السوري قاطبة. أنا شخصيّاً لن استنجد إلاّ بأبناء وطني وإخواني وما تفضّلت به يا سيادة الميجر عن اعتداء مسلمين على مسيحيّين أو العكس لن يحصل مطلقاً. نحن أخوة ونحن يد واحدة وقلب واحد ضدّ المحتلّ والمغتصب فلا أقرّ معلوماتك بأن ثمّة اعتداءات قد تحصل أو حبل الأمن سيضطرب. لا لا إن ذلك خيال لن يحصل على الأرض السوريّة وأنا إذا دبّت الفوضى أو أثيرت سأطلب من الشباب المسلم أن يحمي كنيستي وبيتي وأبنائي، وأؤكد لك أنّهم سيلبّون الطلب فور.ا”ً
وكان المطران فتّال كعادته لا يترك زائريه يغادرون مطرانيّته إذا حانت أوقات الطعام دون أن يتناولوه معه، وهكذا انتقل كبار ضباط الجيش الإنكليزي إلى صالة الطعام الكبرى ليأكلوا ويشربوا ويخرجوا بذهول وتأمّل.
وبقيت هذه الحادثة بالصدور إلى أن رويتها بنفسي للسيّد شكري القوّتلي رئيس الجمهوريّة في جلسة خاصّة عندما زار حلب ليفتتح مؤتمر الأطبّاء فيها. فتناول الهاتف ودخل مع المطران فتّال في حديث طويل أخذ يطري موقف المطران الوطني ويقول له:
” إن جهادك ليس أقلّ مما بذلناه وبذله السوريّون دماً واستشهاداً ومالاً. وليس لدي وسام أمنحه لك إلاّ هذا الوسام وهو أنّك أحد بناة هذا الاستقلال وهذه الحريّة اللذين ينعم بها هذا الشعب. “
وهدأت الأحوال في حزيران ولزم الجنود الفرنسيّون ثكناتهم. وعقد في 21 حزيران 1945 مهرجان قومي لتكريم المواطنين الذين استشهدوا في سبيل الاستقلال وافتتحه المطران فتّال وجاء في خطابه: ” وإذا كنّا نكرّم الآن مواطنيّ الأعزاء أولئك الأبطال الذين سقطوا ضحيّة هذه الحوادث المؤلمة الأخيرة إنّما نكرّمهم جميعاً, غير آبهين إلى مختلف مذاهبهم الدينيّة لأنّه إذا كان الدين لله وحده فالوطن للجميع على السواء. ليس الوطنيّون في جميع أنحاء العالم, أيّها الكرام أبناء الدين الواحد. لا! وما نحن في هذه البلاد وطنيّون إلاّ لأنّنا أبناء تربة واحدة, نستنشق نفس الهواء الطيّب ونشرب نفس الماء العذبة, ولنا في هذه التربة المحبوبة مدفونة عظام آبائنا وأمّهاتنا وأجدادنا وأجداد أجدادنا. ولو أننا نأخذ على كفّنا حفنة من تربة هذه البلاد العزيزة لوجدنا الأديان, وأيم الحق في تلك الحفنة مختلطة ممتزجة متعانقة. ومتى كان الدين وحده جامعة الوطن ورابطة الوطنيين! ها إن الروس والإنكليز والأمريكان والصينيّين وغيرهم من شعوب الأرض العديدة يموج في بلادهم الكاثوليك والأرثوذكس والمسلمون والبروتستانت والإسرائيليّون والوثنيّون ومع ذلك لا يعتبرون أنفسهم إلاّ أبناء وطن واحد يجب عليهم أن يحبّوه ويخدموه ويعبدوه بعد الله الخالق ومعبود جميع بني البشر.”