إن الإشادة بالدور التاريخي للمسيحيين العرب أو ( العرب المسيحيين ) التسمية التي يفضلها البعض . يمتد إلى بداية القرن الماضي ، أي إلى بداية بلورة مفهوم المشروع القومي العربي الذي تبنوه وعملوا لأجله . وتزايد هذا الحديث في ذلك الوقت مع مشروع النهضة الذي حمل لواءه عدد من المثقفين والسياسيين العرب مسلمين ومسيحيين لا زالت أسماءهم تتردد في كل المناسبات ، كما تتردد أسماء الصحف والمجلات والجمعيات والنوادي التي أسسوها للتعريف بهذا المشروع وتعميمه والتي تميزت أسماؤها ، باستثناء بعض الجمعيات التبشيرية بأنها أسماء عربية بعيدة عن الطائفية والمذهبية . وتدعو لألفة الأمة تضامنها وبناء المجتمع المتماسك . والآن يجري حديثاً مكرراً عن الدور التاريخي الذي لعبه المسيحيون العرب في القضايا الوطنية والقومية، ومساهمتهم البارزة في محاولة النهضة التي جرت منذ القرن الثامن عشر، والتجديد المستمر لهذا الدور. حيث نشرت مجموعة من الدراسات والأبحاث حول هذا الدور أبرزها .
– العدد 110من مجلة المعارج التي تصدر في دمشق نشرت ملفاً واسعاً عن دور المسيحيين العرب في النهضة شارك فيه كتاب بارزون مسلمون ومسيحيون فاق العشرة: حسين العودات – صقر أبو فخر – المطران جورج خضر – يوسف سلامة – محمد الرميحي …وغيرهم.
– المسيحيون العرب وفكرة القومية العربية في بلاد الشام ومصر (1840 – 1912). رسالة دكتوراه في 480 صفحة للباحثة الأردنية فدوى نصيرات، عن مركز دراسات الوحدة العربية.
– مقالة حول نفس العنوان في مجلة المستقبل العربي العدد 10 لشهر تشرين الأول 2009
– كرم الحلو قراءة للدور التأسيسي للمسيحيين العرب في جريدة السفير يوم 4 / 12 / 2009
ولكوني عضواً مؤسساً في لجنة المبادرة الشعبية لمواجهة هجرة المسيحيين من الوطن العربي التي لها مساهمات فعالة في هذا المجال، أرى وتعقيباً على ذلك. أن الاهتمام على هذا النحو بالدور التاريخي للمسيحيين العرب والتذكير به يعبر كما ذكر الأستاذ الحلو بالغبن الذي تعرضوا له في المراحل التاريخية الماضية . لكن الاهتمام بهذا الدور يعبر أيضاً عن ضعف مفهوم المواطنة ، و الفهم الخاطئ للوجود المسيحي في الوطن العربي الذي يختلف عن وجودهم في الدول الإسلامية الأخرى ودورهم في خدمة الأمة ، حيث تعترف الأغلبية الساحقة منهم أن انتماءهم للعرب يفوق أي انتماء آخر لهم .
وطالما أن جميع هذه الدراسات تتحدث عن المسيحيين العرب وليس عن مسيحيين في الوطن العربي فهذا يعني أنهم لم يأتوا من خارجه كي يبدو دورهم في النهضة وكأنه مكرمة أو منٌة ، بل هم جزء من حضارة هذه المنطقة واحد أجنحتها ، ودورهم لا يعدو كونه الدور الطبيعي الذي يقدمه المواطن لوطنه . فهم مواطنون لهم حقوق المواطنة وعليهم واجباتها ، رغم الاجتهادات التي يطلقها غلاة التطرف و بغض النظر عن الظروف التي تحصل هنا وهناك وبين حين وآخر . فهم مواطنون لهم حقوق المواطنة وعليهم واجباتها . هنا يتجلى الفهم الحقيقي لدور المسيحيين العرب عندما يوضع في هذا السياق ، ومن هذا المنطلق يصبح وجودهم ظاهرة راسخة ، وبهذا الشكل فإن حضورهم التاريخي والقومي يلتقي ويتفاعل مع حضور المسلمين جناح الأمة الآخر ليصب في خدمتها .
وإذا كان الإقرار بهذا الدور لا يختلف عليه أحد لكن هناك اتجاهان في تقويمه وخاصة ما يتعلق بتبني المشروع القومي العربي والعروبة . الأول يؤيده عدد كبير من المسيحيين وأنا منهم ويرى . أن تبني المسيحيين للعروبة ودفاعهم عنها هو لأن انتماءهم العربي سبق انتماءهم للمسيحية حيث أن العرب وجدوا قبل المسيحية ولا زالت القبائل العربية بأسمائها المعروفة تتردد في كتب التاريخ . واستقبلوا الإسلام كوريث للتراث العربي برحابة صدر دون أ مشاكل تذكر بل عاشوا معه وساندوه ودعموا مسيرته . تلك ليست مجرد خطابة بل حقيقة تاريخية . وانتماءهم هذا يبرر لهم البحث عن المشروع السياسي الذي يحقق أهداف الأمة وقد تجسد بالمشروع القومي العربي الذي عبر بكل ما حمله من مفاهيم عن التحرر و الحرية والعدالة والمساواة والتقدم والوحدة ، عن الأهداف السياسية لهذه ا للأمة .
أما الاتجاه الآخر فيرى أن حمل المسيحيين العرب لراية القومية والعروبة جاء في مواجهة الإسلام داخل الدولة العثمانية ، وهو ما تميل إليه الباحثة نصيرات وكثير من المثقفين والكتاب في هذا المجال . ويبررون رؤيتهم هذه بأن المشروع القومي صناعة غربية تبناه هؤلاء لتبرير فصل الدين عن الدولة الذي يرفضه المسلمون و يؤكدون على التلازم بينهما ، وأن لهم انتماءات أخرى غير العربية لكنهم وجدوا في العروبة الفضاء الواسع لتبرير دعوتهم . هذا الرأي يشكل إجحافاً ليس بحق المسيحيين فقط بل بحق كل العرب الذين تبنوا ودعموا هذا المشروع والذين لا يشكل المسيحيون إلا جزءً منهم .
( (على كل حال إن الإجحاف الأكبر بحق المسيحيين ، جاء على لسان الدكتور فيصل القاسم في برنامجه . الاتجاه المعاكس على قناة الجزيرة ، يوم 8 / 12 / 2009 . عندما وجه للنائب السويسري المتطرف أوسكار فرايزنجر ، الذي وقف وراء الاستفتاء بمنع بناء المآذن في سويسرا والذي استنكرته جميع الكنائس المسيحية في الشرق والغرب سؤاله التالي : ” ما هو موقفكم لو منعت مصر أو الأردن أو المغرب قرع أجراس الكنائس فيها ؟ ”
وكأن الكنائس في البلدان العربية التي استنكرت وأدانت جميع الإساءات التي توجه للإسلام والمسلمين . هي التي وقفت وراء هذا الاستفتاء . والدكتور القاسم يدرك أن عداء السياسات الغربية للمسيحيين العرب والمآسي التي عانوا منها بسبب تمسكهم بوطنيتهم وهويتهم القومية ودفاعهم عن مواطنيهم يفوق كل التصورات )).
فأهداف الأمة العربية التي حملها المشروع القومي ومهما كانت الجهة التي صدرته ، لم تكن للمسيحيين فقط بل لكل العرب في مواجهة سياسة القمع والتمييز التي مورست ضدهم ولتحقيق نهضتهم التي تضعهم في مستوى الأمم الأخرى ، وكان الغرب أول من واجه هذا المشروع عندما شعر أنه أصبح يشكل خطراً على مصالحه ، فعمل على إجهاضه . وإذا كان هناك من اختلافات فقد تناولت آليات التنفيذ وليس الأهداف . فالمسيحيون هم الذين طالبوا أن يكون الخليفة في الدولة العثمانية من العرب كونهم هم الذين حملوا راية الإسلام ونشروها ( نجيب عازوري ) ، كما تبين الباحثة نصيرات . وليس هناك ما يدل على وجود معارضة قوية في الأوساط العربية لهذه الدعوة . وإذا كان البعض يرى وخاصة بعد عودة تركيا لتحسين علاقاتها مع العرب . بأن الدعوة للانفصال عن الدولة العثمانية كان خطأً وعلينا إعادة كتابة تاريخنا من جديد ( منذر سليمان الباحث العربي في أمريكا والعضو البارز في المؤتمر القومي العربي ، في برنامج له مع غسان بن جدو على قناة الجزيرة يوم ربما 20 / 11 / 2009 ). لكننا لا نعتقد آن أحد من العرب مسيحيين آو مسلمين طالبوا بالانفصال في البداية ،إلا بعد أن عجزوا عن تحقيق الإصلاحات التي كانت تعد فيها السلطة العثمانية نفسها ومنها منح العرب حقوقهم المشروعة . خاصة وان خلافات كانت تحصل بين العرب على شكل الدولة بعد الانفصال إذ رأى البعض أن تكون خلافة عربية (عبد الرحمن الكواكبي). أو إمبراطورية عربية ( نجيب عازوري). وهو ما لم تشر له الباحثة نصيرات. ومن الصعب التصديق أن تبني المسيحيين العرب للعروبة أو للعلمانية هو لإخفاء انتماءات أخرى . إذ هل يقوم الأكراد مثلاً الآن بتبني فكرة الأمة الإسلامية كون الأغلبية الساحقة منهم يدين للإسلام بدلاً من دعوتهم للانفصال عن الأتراك والإيرانيين والعرب وتشكيل دولة لهم ؟
لقد دعم العرب الانشقاق الأول في الدولة العثمانية الذي قاده محمد علي في مصر بسبب الإصلاحات التي حققها فيها وتوجهه لتوحيدهم ولا بد أن تكون هذه الإصلاحات قد خدمت مشروعه وعززت الانشقاق ورسخته . لكن الانشقاق الآخر جاء على يد الشريف حسين بن علي الذي أطلق صيحته المشهورة ( لقد طاب الموت يا عرب ) بعد أن سمع بأنباء الإعدامات التي نفذتها السلطة العثمانية ضد المناضلين العرب يوم 6 أيار 1916 والذين شكل المسلمون 90 % منهم ، فاندلعت الثورة في حزيران من نفس العام . وبغض النظر عمن ساندها فقد شكلت الانفصال الأخير ونهاية الدولة العثمانية . ولكننا لا نجد ما يدل على وجود تأثيرات فعالة للمسيحيين العرب على الشريف حسين شكلت مقدمات لهذه الثورة كما تذكر الباحثة نصيرات ، وإن كانت قد التقت مع أهدافهم العامة .
وعلى كل حال فإذا كانت هذه الخلافات قد انتهت مع تكشف اتفاقيات سايكس – بيكو وانهيار الدولة العثمانية واستبدالها بالاحتلال الاستعماري الغربي ، ونشوء الدويلات القطرية العربية بحدودها الحالية ، وتكريس التجزئة ، إلا أن بعضاً من أثارها لا زال قائماً هنا وهناك ، كالجدل الذي دار حول تسمية المؤتمر القومي الإسلامي مثلاً . إذ يرى البعض من التيار الإسلامي في المؤتمر، أن يسمى بالمؤتمر العربي – الإسلامي. بينما يجد البعض الآخر أن التسمية الحالية تعبر عن كون المؤتمر يضم أعضاء من تيارين ينتميان لأمة واحدة التيار القومي العربي والتيار الإسلامي، وليس أعضاء من أمتين، العربية والإسلامية. (هذا الجدل جرى خلال محاضرة عن العلاقة بين العروبة والإسلام خلال شهر نيسان الماضي.)
ضمن هذا السياق فالمواطنون في الوطن العربي مسلمين كانوا أم مسيحيين ومهما كانت انتماءاتهم الأخرى ليسوا بحاجة للإشادة بالأدوار التاريخية ، بقدر ما هم بحاجة لتوفير مستلزمات الظروف والشروط التي تؤمن لهم الحياة الحرة والكريمة بكل ما تحمله من عدالة ومساواة وديمقراطية ومستوى معيشي لائق كي نجعلهم يتمسكون بوجودهم ويفخرون بحضارة أمتهم وثقافتها ، وينعمون بخيراتها في مجتمع عربي ديمقراطي موحد .