خلال نصف قرن سيطر خطاب بائس على مستوى “النخبة” والعامة، مردّه أيديولوجيات خشبية ووعي زائف لا يرى الواقع على حقيقته. وقد جرى استناداً لذلك تصنيف الدول والمجتمعات المحيطة. فالدول العربية مثلاً صُنِّفت إلى دول رجعية ودول تقدمية، وضمت مجموعة الدول “التقدمية” في عرف “القوميين” و”اليساريين”: سورية، العراق، ليبية، الجزائر، اليمن. وكان يُشار لدول الخليج بالدول “الرجعية“.
وهذا الوصف كان له معياران أساسيان هما الخط السياسي للدولة ونمط الحياة فيها. إذ كان يوصف الخط السياسي لدولة مثل سورية بأنه خط “تقدمي” على اعتبار أن نظامها البعثي هو نظام “تحرري” “ممانع” “اشتراكي” “مستقل”، فيما الخط السياسي لدول الخليج كان يوصف بأنه “تابع” و”عميل”، أما بالنسبة لنمط الحياة في دولة كسورية فيوصف بأنه “حضاري” مقارنة بما هو عليه الحال من “تخلف” و”بداوة” في دول الخليج.
الواقع يقول غير ذلك: تحولت سورية خلال نصف القرن الماضي من دولة ذات آفاق ديمقراطية حضارية إلى دولة محكومة بنظام تشبيحي وتعاني التخلف في المستويات كافة، فيما عدا الصفات الحضارية لشعبها، وظهر أنها محكومة بنظام همجي ما دون أنظمة الخليج البدوية، وظهرت “الاشتراكية” كغطاء لستر الفساد، و”الممانعة” لم تكن أكثر من كلام وجعجعة فارغة، والاستقلالية كانت هشة وعرضة للاختراق في كل لحظة، بل كانت ستراً لتوازنات قوى متفق عليها مع أعداء حقيقيين لشعبنا كإسرائيل وغيرها.
أما دول الخليج التي كانت تصور على أنها نظمٌ بدوية متخلفة، فإنها قد تحولت خلال ثلاثة عقود إلى دول عالمية ومراكز استقطاب اقتصادية وإعلامية وإدارية، أي أنها حققت تقدماً حقيقياً في عدد من مستويات الحياة، إضافة للتقدم التكنولوجي، والإنجازات المهمة في مستوى الخدمات البشرية.
يكفي أن نجري مقارنة في مسألة واحدة بسيطة، كمقارنة الفرق بين مطار دمشق “الدولي” ومطار دبي، فالمطاران يعكسان بالضبط نمطين من الأنظمة، فمطار دمشق يشير ببساطة أن النظام الحاكم ليس أكثر من نظام تشبيح تقوده عقلية “ضيعجية”، فيما الأمر مختلف بمسافات ضوئية بالتأكيد في مطار دبي، رغم أن نظام “التحديث والتطوير” قد وضع على جدول أعماله تحديث مطار دمشق وقضى 12 عاماً في هذا المجال، وكانت الحصيلة مطار لا ينفع ليكون كراجاً للسيارات. والأمر لا علاقة له بالشكل العام للمطار وحسب، بل بنمط الإدارة والخدمات والتعامل مع البشر.
وعلى مستوى علاقة النظم الحاكمة بشعوبها، فقد كانت الأنظمة “التقدمية” هي الأسوأ. أنظمة الخليج أنظمة قمعية لكن الأنظمة “التقدمية” همجية، وكانت (خاصة نظاما البعث في سورية والعراق) الأكثر دموية وإجراماً واستهتاراً بحياة البشر.
يمكن القول إذاً إن المسار في دولة مثل سورية كان تراجعياً، فيما كان المسار في دول كالإمارات وقطر مساراً تقدمياً على مستوى الدولة والمجتمع. لذا يصح القول إن الدول الموصوفة بأنها “تقدمية” كانت في الواقع دولاً رجعية، والدول الموصوفة بأنها “رجعية” كانت في الحقيقة دولاً تقدمية.
ردود تشبيحية متوقعة، وإجابات مسبقة عليها:
هناك من سيرد على الكلام السابق كالآتي:
1- هل أصبحت قدوتك دول الخليج؟
جوابي هو: لا، قدوتي هي دول أكثر حضارة، وأطمح أن تكون سورية أرقى بلد في العالم، وأنا أقارن مستوى التطور الحقيقي في الدول ولا أدافع عن دول الخليج بل أقيم الدول التي كانت تدعي التقدمية.
2- دول الخليج لديها المال الكافي:
جوابي هو: سورية والعراق فيهما مال أكثر، وتحتوي على كل مقومات الحياة وهي الأغنى (النفط، السياحة، الآثار، .
3- دول الخليج تابعة للسياسة الأمريكية:
نعم هذا صحيح، والدول الأخرى كانت تابعة أيضاً، وممانعتها مجرد كلام، وحصيلة ممانعتها عبر نصف قرن هي هزيمة دائمة أمام عدونا إسرائيل.
4- نظام الحكم ملكي أو أميري في دول الخليج:
جوابي هو: وماذا اختلفت الجمهوريات المبتذلة في سورية والعراق واليمن، ألم تكن جمهوريات وراثية؟
5 – دول الخليج يسيطر عليها أنظمة إسلامية وهابية سلفية:
جوابي هو: قد يكون هذا الأمر صحيحاً في السعودية، لكنه غير صحيح في دبي وأبو ظبي والدوحة، فالحرية الشخصية مصونة بقوة القانون، هناك المرأة التي ترتدي الحجاب والمرأة التي ترتدي الشورت.
ثم ماذا كان حكم البعث؟ ألم يكن حزباً سلفياً سيطر على المجال السياسي وحياة السوريين كما تفعل الأنظمة السلفية تماماً؟
6- بعض الردود ستكون أكثر تشبيحاً وستتناول (بسبب عجزها وضحالة تفكيرها) ما هو شخصي: أنت في الدوحة ولذلك تقول هذا الكلام، ويبدو أنك تتلقى المال من قطر “العظمى”، وأنت عميل لدول الخليج.
جوابي هو:
أ- قلت كلمتي داخل سورية في كل الظروف، وخلال 15 عاماً، واعتقلت بسببها، ولم أخرج إلا مضطراً منذ عام.
ب- قطر دعمت المجلس الوطني السوري وائتلاف المعارضة وأنا لست عضواً في أي منهما.
ج- أختلف مع أداء السياسة القطرية رغم أنها الأكثر دعماً للثورة السورية.
د- من كان لديه إثبات على تلقي المال فليظهره ولينشره على الملأ، فلا شيء يبقى خافياً، ولم يكن طموحي مالياً في يوم من الأيام.
هـ- النظام السوري كان نائماً في حضن قطر، ولم يكن هناك أكثر من الشراكات المالية بين أقطاب النظام وقطر، ونظامكم عاش على مساعدات خليجية كان يضعها في جيبه وليس في خزينة الدولة.
و- أنتم تتبعون نظامكم كلما غير رأيه، والنظام قبل الثورة كان نائماً في حضن تركيا وقطر، فقد صرعنا بتركيا وبالعلاقات السورية التركية حتى بت أرى كل شيء في سورية تركياً، ولدرجة أنني كنت أشعر بالغثيان من المسلسلات التركية، وخالد مشعل تحول عندكم بين ليلة وضحاها من “مقاوم” إلى “عميل”، ولا زالت العلاقات الخاصة بين نظامي الحكم في سورية وقطر موثقة، فضلاً عن أن النظامين دخلا في شراكات سياسية عديدة في السابق، خاصة ما يتعلق بلبنان.
ز- هناك حوالي مليون سوري في دول الخليج يعملون، وبالتأكيد من الغباء اتهام مليون من البشر بأنهم عملاء لمجرد كونهم يعيشون فيها.
ح- أوضاعي المادية في سورية كانت جيدة، وملكياتي البسيطة واضحة، واليوم لدي عملي الخاص براتب جيد، فالرواتب في قطر من أعلى الرواتب في العالم، وأنا أعيش بثلث الراتب وأستأجر بثلثه وأتبرع بالثلث الأخير.
7- أخيراً: أرجو أن تتحفوني بانتقادات ذات قيمة ولا تعبر عن الضحالة الفكرية والنفسية، على الأقل كي أحترمكم!
مقالات ذات صلة