يحشد حزب الله منذ أسابيع حججاً كثيرة لتبرير تزايد تدخّله العسكري في سوريا دعماً لنظام الأسد واحتلالاً لقرى محاذية للحدود اللبنانية ولأحياء في ضواحي العاصمة السورية. وتراوح حججه بين حماية لبنانيّين مقيمين خلف الحدود، والدفاع عن مقام السيدة زينب، وقتال “التكفيريّين” استباقياً لمنعهم من دخول لبنان، والتصدّي للمؤامرة الدولية-الإقليمية على “المقاومة” وحلفائها. وتُعطف على الحجج الرسمية المذكورة مقولات تتردّد في أوساط الحزب الشعبية وفي بيئته الحاضنة وتُستخدم للتعبئة أو لترهيب الخصوم “الداخليّين” – وأمرا التعبئة والترهيب أساساً وثيقا الارتباط.
مِن هذه المقولات ما يستعير من أحداث “الفتنة الكبرى” في القرن السابع الميلادي بعض السرديّات التي بُنيت عليها انقسامات ومظلوميّات؛ ومنها ما يزاوج بين الماضي والحاضر على نحو تبدو فيه المعركة في سوريا ثأراً من موقعة كربلاء، أو على الأقل، منعاً لتكرارها؛ ومنها أيضاً ما يستعيد بعض المشاهد والخطابات المضادة فيركّز على معالم الكراهية والتعصّب المذهبي فيها (وهي بالفعل موجودة وبغيضة بمعزل عن ملابساتها) ليحذّر من ترجمتها الميدانية إن لم يتصدّى لها قبل بلوغها دياره. وطبعاً، تبقى لأميركا وإسرائيل حصّة إذ يصعب في مخيّلة “ممانعة” تصوّر أن لا مكائد لهما منصوبةً في القصير أو في الريف الدمشقي مثلاً.
ولا شكّ أن الحجج الرسمية كما المقولات الشعبية هذه تهيمن اليوم في الجنوب اللبناني والبقاع الشمالي وفي ضاحية بيروت الجنوبية وبعض أحياء العاصمة. وهي تُبثّ في أجهزة إعلام وفي مدارس وجمعيات كشفية وشبابية ومن على منابر مراكز دينية وضمن حلقات حزبية. كما أنها تتردّد مع كل جنازة لمقاتل عائد من أرض المواجهة، وتتحوّل الى مسلّمات قد تصل مساءلتها الى مرتبة “الطعن بدماء الشهداء” أو حتى “التشكيك” باليقين الديني ذاته.
على أن التدقيق في بعض الجوانب المحيطة بالحجج والمقولات إياها، وبالممارسات القائمة افتراضاً بموجبها تظهر أن ماكينة حزب الله الإعلامية والعسكرية، بنَت فوق مقوّمات “الشيعية السياسية” اللبنانية التي بدأ تبلورها أواسط الثمانينات، وبموازاة الايديولوجيا والتنظيم “الثوري” الإيراني، منظومةً فيها من التشابه مع المنظومة الخطابية والعسكرية الرسمية الاسرائيلية الكثير. بمعنى آخر، ثمة تماثل يحقّقه حزب الله اليوم مع جوانب عدّة في منظومة “الذرائع ومقتضياتها” التي أقامها عدوّ قاتله الحزب على مدى عقدين وأكثر من الزمن. وهذا يتخطّى الجانب العسكري وما فيه من تنظيم ومناقبية صارمة.
فعلى سبيل المثال، لا تختلف الاستباقية التي يدّعيها حزب الله في حوض العاصي السوري “بهدف تأمين سلامة اللبنانيين” عن مبدأ “سلامة الأراضي الإسرائيلية” التي اعتمدها الجيش المسمّى “جيش الدفاع الإسرائيلي” في معظم عمليّاته داخل الأراضي اللبنانية.
ولا تتمايز حجّة الأضرحة والمزارات الدينية والذود عنها عن حجج المستوطنين في مدينة الخليل، أو عن فلسفة الاحتلال بدعوى الدفاع عن تاريخ أو عن مقام يتهدّده الشرّ ويكاد يكرّر “مأساته الأولى“.
ولا تفترق النظرة لدى حزب الله الى العامل الديموغرافي الذي يدفع للتساؤل عن حكمة ذهابه الى صدام مذهبي كبير في ظل أقلّويّته إقليمياً عن نظرة “الاستبلاشمينت” الإسرائيلي التي لم تر في العامل الديموغرافي العربي (خارج حدود فلسطين التاريخية) ما يخيفها فعلياً. ذلك أن القوّة المقاتلة وكفاءتها وبُنيتها التحتية وعصبية بيئتها الملتفّة حولها عُدّت كافية لحسم المعارك وكسب الوقت وتغيير المعادلات.
وإذا أضفنا الى ذلك أن كيان الحزب السياسي شديد الاتّكال على نواة الحزب المؤسّسة، أي بنيته العسكرية، لأمكنت إضافة عنصر مقارنة إضافي مع العنصر التأسيسي الإسرائيلي حيث تشكّلت الكيانية السياسية حول الجهاز العسكري وصار الجيش من يومها جهاز الدولة الصهيونية الأهمّ.
ويمكن طبعاً الحديث عن بناء القدرات الأمنية للحزب اللبناني وأذرعته الخارجية الكثيرة الفاعلية والانتشار، ويمكن كذلك البحث في تركيزه على صورته لدى الرأي العام “الخارجي” وديناميّته في هذا المجال، ويمكن أيضاً الإشارة الى أن لدى جمهوره غرور قوّة يُساكن المظلومية التاريخية وسرديّات التهميش والقمع فيبرّر أفعال الحاضر. وهذا كلّه يؤكّد أوجه تمثّل حزب الله بعدوّه في الموقف الذرائعي وفي أشكال المقاربات الصراعية المختلفة.
لهذه الأسباب، ولأُخرى مرتبطة بخصائص الاستقطاعات والتحالفات والتوازنات القائمة في لبنان منذ العام 2005، لا يبدو اليوم انخراط الحزب في القتال السوري مدعاة خوف لديه على المدى القصير من تململ مريديه لبنانياً، ولا تبدو احتمالات الضغط الشعبي والإعلامي عليه كبيرة، خاصة أنها تأتي من خصومه الذين لا يعبأ بهم جمهوره أصلاً، والذين سبق له على مدى عقد كامل اتّهامهم بالتآمر عليه واستهداف من يمثّل (سياسياً ومذهبياً). كما أن اندفاع شبّان من احتياطيّيه أو من عناصر الاختصاص لديه للقتال في سوريا تلاقيها مشاعر لدى قسم كبير من مناصريه بالاعتزاز والتفاخر بقدرات تسمح لحزبهم بالتدّخل “الحاسم” في جبهات قتالية خارج حدود بلاده، لا بل في بلاد تكبرها بمرّات ومرّات. وهذا يعوّض ربما بعض الخيبة التي أحدثها تراجع شعبية الحزب عربياً بعد الثورات وعودة السياسة الى مجتمعات كانت محرومة منها، وكانت تجد فيه نموذجاً مغايراً لما تعرفه من نماذج حزبية نادرة أو هزيلة عندها…
حزب الله يندفع اليوم إذن نحو قتال يشبه في أسلوبه وشعاراته أسلوب عدوّه. ويبدأ معركة يملك توقيت بدئها وإدارتها الآنية لكنه قد لا يملك، رغم قوّته وتماسك جمهوره، القدرة على إنهائها بالشكل الذي يناسبه. وهو يفتتح بذلك مرحلة جديدة تختلف أوضاعها كثيراً عمّا خبره حتى الآن من أوضاع، ولن تكون تداعياتها على الأرجح مقتصرة عليه. فهشاشة الأحوال اللبنانية الراهنة ووهن مؤسسات الدولة (وغياب أو بالأحرى تغييب بعضها!) مضافان الى الانقسام الحاد حول أدوار الحزب نفسه قد تُدخل لبنان كلّه في حقبة يُخشى أن تكون من أسوأ الحقبات التي عرفها في العقود الأخيرة…