واجهت الفاشية الاحتجاج العفوي منذ بدايته في مدينة درعا-18آذار2011- بقوة نارية وحشية،أرادت من خلالها أن تخمد الحراك الشعبي في مهده،وأن تبعث رسالتها إلى باقي المدن والمناطق،تؤكد فيها على شكل الاستجابة الوحيد الذي بحوزتها للمطالب الشعبية،والذي ستتعامل به كذلك،مستخدمة حلولاً متحدة وظيفياً وتدمج بين الحلول الأمنية-العسكرية-الحربية في آن ،مستفيدة من خبراتها المتجذرة في بنيتها القمعية والسياسية والحقوقية،إضافة إلى إستلهام الميراث الإرهابي الذي أنتجته التنظيمات الفاشية وتجاربها:الصدمة والترويع والهاغاناه كأمثلة.
وكانت قد أعلنت بأكثر من مناسبة قبل بدء الحراك وإثناؤه،أنها لن تسمح بحصول ما حدث في البلدان العربية الأخرى:تونس-مصر-اليمن-ليبيا،وأن سوريا مختلفة عن تلك الدول.وعبارة “لن تسمح بحصول”ستعكس مسألتين :عدم الإقرار بضرورة التغيير وشرعيته الشعبيةالثورية،والتكاليف العالية التي سيفرضها على الشعب السوري بقاء أو إزالة المشروع الفاشي للبورجوازية.
الحل الوحيد.
نعم، وسيتبين في السياق التجريبي أن كل الأشكال الأخرى من لجان حوار ومؤتمرات ولقاءات تشاورية…..الخ، هي في خدمة هدف محدد مسبقاً: أخماد جذوة الحراك والالتفاف على مطالبه، وإحتفاظ الطغمة العسكرية التي هي تعبير عن إحتكار رأسمالي طفيلي ريعي، بإمتيازاتها الطبقية والسياسية-الحزبية- كاملة غير منقوصة،والحؤول دون إنضمام كتلة من البورجوازية المتوسطة المدينية للحراك،بإيصال رسالة لها أنها تأخذ بالحوار كمخرج آمن للأزمة العامة،مع حصار جماهير الحراك بسلسلة من الشائعات والأكاذيب والتلفيقات لمنع توسعه الأفقي،فيما وحدات الفاشية العسكرية تدون بالصباغ على جدران البلدات بعد الإنتهاء من اجتياحها واعتقال وإغتيال الطليعة الميدانية من أهلها، عبارة”الأسد أو لا أحد”و”لا إله إلا بشار”،والتي يمكن إعتبارها التجسيد الملموس لحقيقتها،والتي طالما عملت وسائل إعلامها لإظهار نقيضها،لكن “سيف الفاشية كان على الدوام اصدق من كتبها”،ورغم حالة التبادل الوظيفي بين الإعلام والجند الفاشست،تبين أن الجند هم الأكثر قرباً من حقيقة المشروع الفاشي وحيثياته الأيديولوجية والحربية وإنكشاف عناصر بنيته غير المصرح بها،وظهر ذلك بوضوح من خلال عشرات الفيديوهات المسربة عن ممارسات الميليشيات الفاشية،والتي وصلت إلى عموم محطات التلفاز والمواقع الالكترونية،وظهر جلياً أن الصراع بين الصدق والكذب،شكل مميز من أشكال الصراع السياسي،في هذه الإنتفاضة الشعبية.
إن أقصى ما يمكن أن تقدمه الفاشية لجماهير الإنتفاضة هو ما كان يقدمه التجار الإنكليز لزنوج أفريقيا،بضائع نافلة ومغشوشة مقابل حفنات من الذهب،أي العودة إلى ماقبل18 آذار2011 مقابل وعود كاذبة ومغشوشة بالإصلاح!!
وزجت الفاشية وأعوانها بكل إمكاناتهما الإعلامية-صناعة عدوها- من اليوم الأول للإيحاء بعدم سلمية الحراك، ودور العامل الخارجي في تحريكه،ودوره في تفتيت الوحدة الوطنية وتأجيج العصبيات الطائفية، وغيرها من الأكاذيب الفاشية المتواصلة،الذي يصرح بها علناً ويعمل بما ينقضها في الخفاء،ويتبين يوم بعد آخر حتى لأبسط الناس ،أن ماهذه إلا محاولات لإبتزاز الشعب السوري وتهديده بأمنه العام التهديد الدائم بالحرب الأهلية وتفجير السيارات وتفشي عصابات السرقة والإبتزاز بالخطف والفدية والشخصي عبر الزوجة والأولاد والأبوين….،وعناصر حياته اليومية من ماء وكهرباء وغاز ومازوت وخبز….وقدمت سرديات خيالية أين منها سرديات “رابليه”و”جول فيرن”عن أنفاق من بانياس إلى أعماق البحار تتجاوز نفق بحر المانش،وأنفاق من درعا إلى عجلون وترسانات أسلحة تفوق الجيش النظامي، وإنبثاق أمراء أفغان وشيشان على خيولهم المطهمة وهم يقودون معارك الجهاد المقدس، وتحليق كائنات فضائية تنقل الرسائل والأسلحة والأموال والمتطوعين….
فيما صمتت وأعوانها عن تسليحها المتواصل والعلني، قبل 18آذار وبعده، للقرى الموالية في الغاب الغربي والساحل وجبل العرب، والقرى المحيطة ببانياس وغيرها، إضافة إلى العشائر الموالية في مدن حلب والرقة وديرالزور….والعمل على تأطيرها في لجان دفاع محلية-الشبيحة- تأخذ جزئياً مهام أجهزة الدولة القمعية في القتل والضرب والتنكيل الدموي والاعتقال للمتظاهر ين،دون إخضاعها لأي نوع من المحاسبة أو المساءلة التي يمكن أن تخضع لها الأجهزة القمعية الرسمية(شرطة-مخابرات)شكلياً على الأقل ،وشوهد تدخل لرجال من الأمن والشرطة في العديد من التظاهرات للتخفيف من الوحشية التي كان يمارسها هؤلاء الشبيحة، وأغلبهم من عتاة المجرمين الذين أخرجوا من السجون بموجب عفوين رئاسيين صريحين، وقوائم عفو سرية، لمن لم يشملهم العفوين، وكل الأخيرين من حاملي الأحكام العالية(الإعدام-المؤبد)وأغلبهم من القتلة المأجورين والمجرمين المحترفين، ومن مرتكبي الأعمال الشائنة….
ويثبت أن العجز البنيوي عن الإصلاح عند الطغمة العسكرية وتركيب أجهزتها العسكرية والأمنية على أسس طائفية يشكل الأساس المادي لاعتماد الحل الفاشي وتكريسه،مما أدخل الأزمة العامة،وهي أزمة ثورية مفتوحة على سيرورات مختلفة ،في حالة من الاستعصاء النسبي والمؤقت،يعبر عنه بعجز تام عن الإصلاح في الطرف الفاشي الحاكم وإندفاعه خلف مشروع إنتحاري وتدميري يأخذ شكل حتمية لاإرادية،تتراكم كل يوم هزائمه الإقتصادية والسياسية والإعلامية والأخلاقية ولم تبقى أمامه سوى القوة الناريةوالتي تتعرى كل يوم من أوراقها الأيديولوجية اللفظية..،وعجز عن إسقاط المشروع الفاشي في الطرف الشعبي،لكن مع توسع أفقي في التظاهرات تشكل إضافة يومية لتثقيل فاعليته وتجذيرها،ودخول قطاعات جديدة من البورجوازية المتوسطة المدينية،التي تخسر إستقرارها وشروط حياتها المادية التي يأكلها التضخم المالي المتزايد،وسقوط العديد من المقولات الأيديولوجية للفاشية”قديم يموت وجديد يتعثر في الظهور للحياة”،وفق تعبير أنطونيو غرامشي.
وتصدر الطغمة العسكرية سلسلة من القوانين التجريمية الوقائية، للاجتماع واللقاء والتظاهر في الشوارع والساحات، وفرض غرامات مالية عالية على من يخالف ذلك وإسناد ذلك بقوانين الاعتقال التي تبدأ من شهر وتنتهي بسنة، وهي إحدى طرق حصار الشكل السلمي للاحتجاج والإغلاق عليه.
هذا التطويق المتواصل والعنيد للسلمية المطلقة، وزج المؤسسة العسكرية في الصراع من اليوم الأول،بشقيها المحترف(المتطوعون)والإلزامي(أبناء الطبقات الشعبية الذين يؤدون خدمة العلم الإلزامية)أظهر حالة التمرد بسرعة ووضوح لا لبس فيه عند الفئة الثانية، عبرت عن نفسها بالإمتناع عن إطلاق الرصاص على المتظاهرين، مما عرضها للقتل المباشر بأوامر ضباطها، أو قتل من يأمر بالقتل من الضباط كرد فعل على الحالات التي يواجهها الجندي ولا يحتملها..
ظهرت بواكير التشقق البدئي في المؤسسة العسكرية من الأيام الأولى للحراك الشعبي-درعا حيث أطلق صف ضابط من عائلة المصري النار على مجموعة من الضباط والعساكر إنتقاماً لمجزرة قامت بها وحدته العسكرية بحق أبناء بلدته-، وقبل تحوّله إلى إنتفاضة شعبية، مما يشير أن هذه المؤسسة مع إمتداد مدة الحسم زمنياً،وإعتماد عمليات عسكرية لاتختلف عن عمليات جيش إحتلال-القصف العشوائي بالأسلحة الثقيلة، إستخدام الأسلحة الكيماوية، التحريض على سرقة البيوت وحرقها وحرق وإتلاف المحاصيل الزراعية وإغتصاب النساء والأطفال، وقتل الأسرى…..الخ، لن تبقى موحدة، لأنه ما من مصلحة ولا هدف واحد يجمع عناصرها، وسيظهر من داخلها أول المتمردين على المشروع الفاشي، وأوائل من سيكشف العديد من “الألغاز” العسكرية، والتي هي خطط عسكرية-أمنية مدروسة بعناية، لتضليل الرأي العام المحلي والدولي…..
لم يقتنع أبناء الطبقات الشعبية، المهمشون والمنبوذون، والذي جرى التعامل معهم كعبيد وخدم في مزارع وقصور الضباط وزوجاتهم وأولادهم، بعدالة الفاشية، لقد رأوا قبل غيرهم الحقيقة الصادمة(من القناصين-والشبيحة-والمندسين داخل المظاهرات-والتعبئة الطائفية الإنتقائية، وسرقة طعامهم ،وإبتزازهم بالمال مقابل إجازة لرؤية الأهل..)كانوا في فوهة البركان، وبين حممه. وستكشف كل يوم أن عقائدية الجيش هي غير وطنيته، وأن هذا الجيش لم يكن بمعزل عن التحولات الإجتماعية ولا عن التوجهات الطائفية الإمتيازية، وهو الذي إحتل، من بداية تسلم هذا الجناح من البورجوازية، العربة الأولى التي تقطر ما تبقى من عربات، وساهم في فرض الأشكال الأكثر جلافة ورجعية وطفيلية في الاقتصاد والحياة العامة، كل ذلك وهو يدير ظهره للعدو الوطني، الذي حول بدوره هضبة الجولان إلى منتجعات سياحية، لكونها من المناطق المتنعمة بالإستقرار….
حتمية اعتماد أشكال نضالية شبه عسكرية وعسكرية
– تتأكد العسكرة الشعبية الثورية اللامركزية،كإبنة شرعية لثقل الانتفاضة الشعبية في الأرياف-حتى الآن-وهي نمط من الأنماط الدفاعية-الوقائية التي يستخدمها الريفيون تاريخياً للدفاع عن النفس أمام هجمات الكواسر البرية وعصابات اللصوص والصراعات الأهلية… وتعبر في سياق آخر عن عجز الأدوات النضالية للإنتفاضة عن إنتاج وتكريس المجاميع الشعبية الضخمة التي لا يمكن تحققها إلا في المدن الكبرى،كذلك تحقيق التراكم النضالي الذي يقود إلى تبني سلاح الإضراب العام الذي لن يجد تحقيق مفاعيله الحاسمة إلا في المدن الكبرى حيث التجمع الرئيسي للصناعات والشغيلة والإدارات الكبرى الوازنة والجامعات والمعاهد،وهي معوقات يمكن تجاوزها من القوى الفاعلة في الانتفاضة،ولا يمكن اعتبارها سوى عجز مؤقت له أسبابه،ويمكن العمل على حلها،رغم سعي القيادة الميدانية للانتفاضة وبشكل مبكر نسبياً للوصول والسيطرة المؤقتة على الساحات العامة في:درعا(بشكل دائم وأهمها اعتصام الجامع العمري-مركز المدينة القديم) وحمص(اعتصام ساحة الساعة) وحماة(اعتصام متكرر في ساحة العاصي-الساحة الرئيسية في المدينة)ومحاولة مبكرة في دمشق للوصول إلى ساحة العباسيين.. والقدرة على زج وتأطير ما يزيد على ستة ملايين سوري في الشوارع والساحات العامة في إحدى أيام الجمعة،عملت قوة النيران الفاشية،واقتحامها المهول على تبديد أي تراكم نضالي نوعي نحو تمكين النضال السلمي بأن يحقق نتائجه.
– لن تستطع الانتفاضة الشعبية الاحتفاظ بنسق نضالي واحد، والتمترس والثبات على أداة نضالية واحدة،لإنجاز المهمة المركزية التي وضعتها نصب عينيها-إسقاط النظام وإقامة نظام ديموقراطي يحقق قسطاً من العدالة والمساواة-ولن تتحقق إلا بتشارك وسائل نضالية متعددة تمليها منعكسات تفاوت التطور في البنية الاجتماعية على الأداء النضالي للقوى الثورية،والذي أبرز العامل الريفي فيها وله أسبابه الموضوعية الصلبة والتي تتفاعل ببطئ منذ سنوات،ويمكن أن نجد بعض مفاتيحه في وصول “الإصلاح الزراعي”الذي أنتجته البيروقراطية والتي تشرف على تطبيقه إلى حدودهما التاريخية والذي ساهم في تعميق التهميش الاقتصادي للريف وانهيار الزراعة،وقدرة التضامن الأهلي على تطويق جنون المؤسسات الأمنية وأساليبها.ولا يمكن تجاوز هذا الشرط الموضوعي ،بذاتوية إنعزالية متضخمة وفرض وصاية مخادعة من خارج الانتفاضة،عبر الإكثار من المواعظ والتعليمات يتوهم منتجوها أنهم “يمونون “على ملايين المنتفضين،وأن هؤلاء ينتظرون تعليماتهم ،والتي تبين أنها لا تنتج سوى الإحباط وتخدم المشروع الفاشي وديمومته.
خلال ثورة 25يناير(كانون الثاني) في مصر مورست أعمال عسكرية مسلحة في بورسعيد وسيناء والصعيد لكنها بقيت في هامش المتن الثوري السلمي،والذي تمكنت طليعته الثورية من تحشيد عشرات الآلاف من المناضلين المدنيين في سيرورة تراكم نضالي مستمرة إلى تملّك القدرة التنظيمية على تحشيد الملايين،ودفع الشغيلة إلى سلسلة من الإضرابات كان لها دوراً حاسماً في الضغط على القاعدة الإقتصادية للسلطة الحاكمة، مما عزز مواقع القوى الثورية ودفع البورجوازية إلى تبني بعضاً من مطالب الثوار،بتسريع عملية الإنقلاب وتشكيل المجلس العسكري.ولا أحد يستطيع شل القوة النارية والحركية للفاشية سوى الحشود الكبيرة المنظمة،وهي وحدها من يتكفل بإخراج وحداتها العسكرية من المعركة(الثورة الشعبية في إيران عام1979)لكن غالباً ما يتم تجاهل النضال الثوري المسلح لمجاهدي خلق وفدائيي خلق وتنظيمات مسلحة كردية وعربية،من بعض الاتجاهات السلميةواللاعنفية المتطرفة،دون توفر فائض أمل،بأنهاالفاشية لن ترتكب مجزرة مروعة،وحصل هذا بشكل محدود- معركة الجمل(القاهرة)…….وغيرها،لكنها شلت عن الحركة بشكل مؤقت،لتستأنف فاعليتها- وتبقى محدودة- بعد تنحي مبارك واستلام المجلس العسكري بسلسلة من حرائق الكنائس وتسعير الصدامات الطائفية والأهلية (مذبحة ماسبيرو وشارع احمد محمود…)
– استعصاء الحل العسكري-الانقلابي على الطريقتين التونسية والمصرية- المخرج البورجوازي للأزمة-،مما يُمكّن من تبني جزئي لمطالب الانتفاضة الشعبية بسبب من:
1 -التداخل بين الطائفية السياسية الإمتيازية والمؤسستين الأمنية والعسكرية،وضمور العقيدة الوطنية،بعد استخدامهما في معارك معادية للمصالح الوطنية الشعبية-لبنان-المدن السورية-المخيمات الفلسطينية-التحالف الإمبريالي لتحرير الكويت..و يتعزز ذلك بإقصاء المهمة الوطنية المركزية تحرير الأراضي المحتلة في الجولان….
2- عمق واتساع الامتيازات والفساد داخل هاتين المؤسستين مما يجعلهما قوتين معاديتين للشعب،وبشكل خاص في صفوف الرتب العالية…
3- دعم السلطتين في إيران وروسيا للخيارات الفاشية المتطرفة،مما ساهم في إدخال الإنتفاضة الشعبية في محور الصراعات الإقليمية وتوازناتها وبدء تسرب مفردات تلك الصراعات إليها ………..
4- لامبالاة دولية ناجمة عن الغرق في حيثيات الأزمة الرأسمالية العالمية وتداعياتها السياسية والعسكرية،ومصالح الكيان الصهيوني،الذي يعيش في نعمة الحدود الآمنة منذعام1974،ناتجة عن قبضة لاترحم مخالفاً لهدنة محمية بالنار وتتجاوز مفاعيلها معاهدات السلام،وضبط لحركة الفصائل الفلسطينيةواللبنانية..
وتبقى الإنتفاضة الشعبية في سيرورتها المفتوحة على إحتمالات ،أن تنجز الفاشية سلام القبور الجماعية،أو تتفلت قوتها البركانية من حصار الشروط الدولية والعربية،بفرض شرطها الذاتي الثوري على كل ماعداه،وتقترب من المعجزة التاريخية،حين يعانق الثوار السماء كما هتافاتهم،بينما تدق أقدامهم صدر الأرض وقلبها وتخرجه إلى الحياة.