لم يبني العالم المتقدم حضارته بالسهل بل بعد معاناة مضنية وتضحيات كبيرة وبعد أن استطاع أن يحرر الوعي والفكر من عناصر الاستبداد والامتثالية معطياً للإنسان المكانة التي يستحقها. في الدولة الحديثة يصبح القانون الوضعي هو الوسيلة التي تحدد العلاقة بين المواطنين وبينهم وبين الدولة. بغض النظر عن أي انتماء لهم، وهم متساوون أمام القانون رغم استثناءات قسرية غير ملحوظة، والمواطنون هم الذين يقرون قوانين دولتهم لتكون دولة المواطنة إما مباشرة أو بواسطة ممثلين عنهم أكفاء مؤتمنين .
في الدول المتأخرة فإن القانون الاجتماعي بعاداتهم وتقاليدهم هو الذي يحدد العلاقة بين البشر، والفرد لا علاقة له بالدولة إلا من خلال المكون الذي ينتمي إليه، عائلة، عشيرة، طائفة، قومية …الخ ولكل مكون قوانينه الخاصة مما يجعل هذه القوانين غير مترابطة وقد تكون مختلفة، وكل جهة تنفذها حسب مصلحتها دون أن تصطدم بالضرورة مع القوانين العامة .
في الدولة الحديثة فإن هدف التمدن الإنساني كما يصفه (دانتي) هو تحقيق ما في البشر من قدرة كامنة على تنمية الفكر ووضعها قيد التنفيذ، أما الدولة العقيمة دينية كانت أم علمانية المناهضة للمجتمع والمبنية على العنف واستعباد الناس فهي دولة تكره العلم وتكرس الجهل ليس بالضرورة عن طريق وقف التعليم وإلغاء المدارس إنما باختيار مناهج تجعل التعليم في خدمة توجهاتها والإيديولوجيات التي تفرضها على المجتمع دون أن يكون لها علاقة بالمعرفة والإبداع. وعلى ذلك فإن (ستوارث ميل) الباحث البريطاني يقول ” حيث يوجد الاستبداد يتوقف العلم والتقدم، وأن المجتمعات المتأخرة التي ما زال الجنس البشري فيها دون الرشد يجب أن تهمل.” إنه يعارض نظام الحسبة في هذه المجتمعات التي تجعل الله حسب قوله ” لا يكره فقط من يعصي أوامره بل سيعاقب أيضاً من لم ينتقم في الحال من ذلك العاصي، وهذا بالطبع افتئات على الأوامر الربانية ” .
هذه الآراء ربما تنطلق من مقولة غير دقيقة ترى أن الاختلاف بين المجتمعات السوية والمتقدمة هو اختلاف تاريخي تفسره خصوصية كل مجتمع كما رآه أرسطو قديماً وكما يراه (أنور عبد الملك)، وإن كنا لا نميل لهذه المقولة نظراً لأن المجتمعات المتقدمة كانت غارقة في السابق بتأخرها، إلا أن الواقع الراهن لهذه المقولة يجعلها شائعة عندما يتجه هذا العالم في ثورته نحو العلم والمعرفة والإبداع بينما تسير المجتمعات المتأخرة نحو مأسسة الإيمان وتجاهل كل عوامل التطور والتقدم .
إن الدولة العقيمة هي نموذج الدولة الفاسدة التي تسعى لتحقيق مصالح عدد محدد ممن يعيشون على أرضها وهم وحدهم يمكن تسميتهم بالمواطنين أما البقية فهم بالنسبة لها رعايا لا يمكن قيادتهم إلا بالقمع والاستبداد .
في الدولة السوية يسود القانون ويصبح التنظيم السياسي في خدمة القيم التي تقيد حركة الحاكم وسلطته، أما في الدولة العقيمة يصبح التنظيم السياسي تابعاً للحاكم وفي خدمته، لذلك فإن كثير من الأنظمة في الدول هذه قامت بتأسيس كيانات سياسية تخدم مصلحتها أو استندت لكيانات جاءت بها للسلطة وعززت مكانتها.
كما استنبط بعضها نماذج من السلطات لمواجهة متطلبات الديمقراطية وتبرير تسلطها، كحكم الطبقة، وحكم الحزب الواحد الذي لا يفضي في النهاية إلا لحكم الفرد حيث تبرز فكرة الزعيم الذي يمثل جميع السلطات ويتمسك بها ويجير جميع المؤسسات لصالح حكمه بما فيها المؤسسات الثقافية والدينية والاجتماعية والإعلامية ومؤسسة القضاء، ويستطيع بواسطتها مراقبة الثقافة ومجمل العمل السياسي وضبطه خدمة لتوجهاته. أما على الصعيد الاقتصادي فقد استنبطت نموذج الملكية العامة لوسائل الإنتاج وفسحت المجال للفساد والإفساد وبه جعلت الوظائف والأعمال بيد السلطة توزعها على الموالين والمؤيدين مقابل استمرار تأيدهم لها انطلاقاً من مقولة أن الاقتصاد هو المحرك لمجرى التاريخ ويتحكم بسلوك الإنسان .
يمكن للدولة العقيمة أن تكون استبدادية تتعامل مع الأفراد وفقاً لرغبة الحاكم دون الالتزام بأي معيار إلا المعيار الذي يفرضه، ويمكن أن تكون دولة بوليسية ليس للأفراد فيها من حقوق، لكن للإدارة سلطة تقديرية مطلقة في اتخاذ إجراءات تحقق من خلالها بعض المصالح التي تخدم الصالح العام بحساب ” أن الغاية تبرر الواسطة،” كما يصفها (محمد رعدون) .
أن المعضلة الحقيقية في هذه الدول هي أن الزيادة السكانية هي زيادة طاغية تزيد عن 3 % وهي تفوق بكثير نسب النمو الاقتصادي كما أن نسبة الشباب فيها مرتفعة وخاصة الفئة العمرية (15 – 45) عام حيث تحتاج هذه الفئة من الحاجات والخدمات أضعاف ما تحتاجه الفئات الأخرى، وبين هؤلاء تنتشر أعلى معدلات البطالة ليس بسبب قلة الموارد بل بسبب الفساد. إن الانعكاس الاجتماعي لهذه المعضلة هي أن الرجال وهم لا يشكلون سوى نصف المجتمع لهم الأفضلية في الأعمال الأساسية باعتبار أن الرجال في هذه المجتمعات وفق الإيديولوجيات السائدة هم المعيلون كما يدعون، بينما تبقى النساء، النصف الآخر، في البيت أو تشغلن أعمالاً هامشية لذلك تبقى المنافسة على الوظائف بين الرجال من هذه الفئة أكثر من النساء بكثير وبعض الوظائف تشترط تقدم الرجال لها دون النساء. إن أغلب الذين يتم تشغيلهم في هذه الدول يعملون بوظائف لا علاقة لها باختصاصاتهم وهذا ما يؤدي لانخفاض الإنتاج ويجعل معدل النمو بين زيادة السكان والدخل سالباً .
الدولة العقيمة دولة غامضة، مدعية، تخفي الحقائق وتحول الهزائم إلى انتصارات وهمية، تروج لقوة الاقتصاد وهي عاجزة، وتخفض من عدد العاطلين عن العمل عبر تزييف شروط البطالة وترفع من القدرة الشرائية للمواطنين وهم يعانون الجوع والحاجة. لكن من المؤسف القول رغم معرفة السياسيين والمثقفين لهذه الحقائق فهم يعملون على إخفائها لتبرير تأييدهم لهذا النماذج من الدول والدفاع عنها.