لم يعد يخفى على أحد كم الويلات التي أتت بها سلط العسكر على المنطقة ودولها الناشئة في الشرق الأسير. الشرق الذي انتقل من موجة حركات التحرر الشعبي وتحقيق الاستقلال الوطني الذي نحتفل به سنوياً أواسط القرن الماضي من حكومات الانتداب بعد الحرب العالمية الثانية، وريثة حكم الدولة العثمانية، إلى موجة حكم العسكر بانقلاباته المتعددة التي أرست بالنتيجة حكم البعث العسكري التسلطي في سورية والعراق، وحركة التحرر الوطني المصرية، وحكم ثورة المليون شهيد في الجزائر… ذوو الهيمنة المطلقة والأحكام العرفية وتأليه الفرد الحاكم.
حكومة البعث العسكرية كانت جزءاً من منظومة عامة اجتاحت حماها معظم دول منطقة الشرق العربية، لكنها تفردت سياسياً في نزواتها في شهوة الحكم المطلق. وإن كنت لست بوارد الحديث عما سمي بالحركة التصحيحية في تفصيلاتها، فقد باتت معروفة ماهيتها وما أنتجته من كوارث على مستويات السياسة والاقتصاد والتفسخ والهدر الوطني. لكن من الضرورة بمكان القاء الضوء على التكاثر المفرط في سياسة تعميق الجذور التسلطية لبنى الاستبداد في الواقع السوري، والتي بات حصادها اليوم جملة من الكوارث لا عد لها ولا حصي. فمنذ تعلقت الروح الوطنية بنموذجها العاطفي التعليل العقلي والتفسير المنهجي، بنموذج العسكر المُحرر للبلد من الاستعمار، حتى طفت على سطح المعادلة الوطنية جملة من الأوساط السياسية تتلاعب بهذه المشاعر وتعمل على تجيشيها في معادلة السلطة ونفي التحرر والكرامة الوطنية معاً! حيث بدأت عمليات استئصال المعادلة الوطنية بوصفها نموذجاً عاطفياً وتصوراً للحياة ونظم المعاش وطريقة تعاقد البشر في حيزهم المجتمعي على شكل حكمهم، وتحويلها لمجرد شعارات بديلة من الوحدة والحرية والاشتراكية أثبت التاريخ زيفها، مخفية خلفها نماذج مهولة من طرق عقاب المجتمع سياسياً ومدنياً وجعل الشعب مجرد مصفق ومهلل وتابع، وإلا يحكم بالمعتقلات والسجون وصولاً للتهجير والتغيير الديموغرافي التي تعيشه سورية اليوم!
حكم العسكر الذي صبغ طباع المنطقة سياسياً واجتماعياً وسلوكياً ونفسياً مثلت الرائز والمؤسس لثلاثة نماذج على الأقل من الأوهام، وربما من الكذب السياسي في تاريخنا المعاصر:
1- القوموية صانعة الحربين حرب الهزيمة المعلنة في 1967، والحرب التحريكية في 1973 والتي على اساسهما تحولت كل المشاعر العربية لمجرد حلم واهم في إمكانية استعادة فلسطين، ومعهم تحولت جموع الشعب لجمهور مصفق يردد أماني الشعارات الواهمة: في رمي إسرائيل في البحر أو بالقيام بـ”التف عليها من كل مواطن عربي فتغرقها في البحر”! والغريب في أن النموذج السلطوي العسكري وبالرغم من اعلامه المدوي: تسقط الإمبريالية، تسقط الصهيونية، وتذخر كل ميزانية الاقتصاد الوطني بنسبة تصل ل 85 % لمصلحة تحرير فلسطين لم تطلق طلقة واحدة عليها، بل حولتها لقمع وسحق شعوبها، وبدل تحرير القدس هجرت سكان المدن السورية من ناسها! وليس فقط، بل عملت بكل ما أؤتيت من دهاء ومكر على افساد المجتمع خاصة في قضائه وتعليمه، لتزيد من معادلة التأخر التاريخي بعداً رابعاً، وهو نظام سياسي يقايض لقمة حياة المواطن بشعارات براقة مفرغة من المضمون وتحول الدولة لمعتقل كبير …
2- قيادة الشعوب وتطبيق نموذج الشيوعية العربية المسفيتة، تلك التي كانت لما قبل هذا النهوض القوموي محاولة في الفكر اليساري في الدفاع عن ثورات الشعوب وبمواجهة الاستعمار الغربي. إلى ان انداحت مع أحزاب السلطات القومية في تحالفات مشبوهة سياسية في لعبة تقاسم السلطة وإن كان من ذيلها والاكتفاء بفتات الوزارات الخدمية! وما شدة انقساماتها وتوالدها وتكاثرها إلا دليلاً على مدى تبعيتها المفرطة للعبة السلطة في شبهة ما أسموه “الديموقراطية” الانتخابية الفجة، وهي التي لم تتجاوز مستوى التعيين من قبل صناع السياسة المحلية على مستوى السلطة وأجهزة أمنها…
3- التحليل النفسي لأزمات الأفراد والذي يختص بإشكالات النمو العقلي والنفسي لدى الأفراد وتعليل مشاكلنا بالتخلف والتربية وحسب! متجاهلة وجود نموذجي الهيمنة المجتمعية من: السُلط المستبدة التعسفية القسرية، والنموذج الديني المهيمن بنصه المقدس ومرجعياته الاجتماعية الدينية والتي عملت ذات السلطات على تكريسها رغم ادعائها عكس ذلك في حربها على الرجعية وما شابه؟ حيث يصبح أي عمل في التحليل النفسي مثار جدل في قدرته على التعامل مع الحالات القهرية ونماذجها المجتمعية العامة في واقع يعاني كل أنماط الاستبداد الفكري والسياسي والاقتصادي…
الأحزاب السلطوية الحاكمة بنماذجها الموصوفة بالقوموية والاشتراكاوية هذه استأثرت بالسلطة كلياً وصهرت الدولة ومؤسساتها في ذاتها الحاكمة، لتقصي بذلك كل معارضيها، ومحولة الشعب إلى جمهور محتوىً سياسياً بهياكل “مؤسسية” و”نقابية” و”جمعيات أهلية” مفرغة من العمل السياسي وتابعة لمنظومة الحزب الواحد وعقائديته، هي دول ما سمي بالجمهوريات ذات النظم الرئاسية والقابلة للتوريث فعلاً، و/أو إمكاناً، تكريساً لديكتاتورية أوليغاريشية، تضرب على كل أوصال المجتمع بقبضة أمنية عسكرية حديدية، تلك التي أطلق عليها واسيني الأعرج “الجملكيات” في روايته “رمل الماية”، وهي الجمع بين النظام الجمهوري بما يفترضه من أطر محض “نظرية” للدولة مع النظام الملكي التوريثي ذي الصبغة التعسفية الديكتاتورية؛ وكما أسماها خلدون حسن النقيب بالدولة التسلطية في كتابه “الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر”.
المقولة النظرية التي تفيد بأن الشعب هو عام المجتمع بكل تعييناته ومضامينه الفكرية والسياسية والاجتماعية موالية كانت أم معارضة، هي أيضاً تعيين الدولة بكل مكوناتها السياسية والاجتماعية؛ هذا ما حاوله الشعب حين أولى سلطات العسكر وفوضهم حكمه، لكن هي ذاتها درجت كحُزَب (جمع تكسير للحزب) على جعل المسألة “الوطنية هي معادلة الموالاة المطلقة المتجمهرة، وإلا فتهمة التخوين والتآمر هو النقيض المباشر لكل عمل مخالف، حتى وإن كان في المجالات الثقافية والفكرية. وإلا لماذا تكثر بشكل مفرط تهمة التخوين والتعامل مع الخارج والتآمر على شعارات الحرية والاشتراكية في هذه النظم… فقط لأن هذه الحُزب قامت على اساس احتكار الوطنية والحقيقة وبالضرورة إقامة الوهم والاستبداد والعسف المجتمعي وهدم وهدر كل ميراث الاستقلال ومقوماته الوطنية الممكنة، وتحويل سورية مثلاً لنموذج لتقاسم خمسة قوى أجنبية، وجميعها تستفيد من بقاء سلطة عسكر البعث الحاكمة لليوم، يتغنى بالجلاء ولا تجني الشعوب منه إلا أوهام الاستقلال.