لو قارن مواطن سوري نقطة انطلاق الثورة الشعبية في وطنه قبل عام بالنقطة التي بلغتها اليوم، لأصابته الدهشة واعتراه الذهول وركبه الإحباط.
قبل سنة، كنا نقول: مواطنة، حرية، ثورة سلمية، دولة مدنية، نظام ديمقراطي. واليوم، تتعالى من حين إلى آخر أصوات تذكر بهذه الأهداف، التي غابت وراء أحاديث لا نهاية لها حول ضرورة التدخل العسكري الدولي وعسكرة الثورة، التي تمارس فعليا على الأرض، دون أن يكون هناك تقيد بخط سياسي أو رؤية استراتيجية من شأنها حماية ضحايا القتل الرسمي المتعاظم، وإبقاء الثورة سلمية ومدنية ومجتمعية وسياسية، كي لا تتحول إلى فلتان مسلح لا ضابط له وهوجة لا يستطيع الشعب الالتحاق بها والتعايش معها، سيمارسها نفر من المقاتلين الذين لا سلطة لأحد عليهم، لن يلبث معظم من ينتمون إليه أن يتحولوا إلى شبيحة على طريقة أهل النظام وشبيحته.
قبل سنة، كنا نسمع صرخة وطنية تنطلق من كل مكان وفي كل مكان، تعلن بأعلى قدر من الاعتزاز أن «الشعب السوري واحد»، وأن عائد ثورته سيكون لجماعته الوطنية كلها دون تمييز بين المواطنين. واليوم، يغيب الشعب الواحد أكثر فأكثر وراء أحاديث تتصاعد على ألسنة كثيرين حول الطوائف والأقليات وضرورة خوض الصراع باعتباره صراع أغلبية ضد طوائف وأقليات معادية لها: الأولى لأنها تحمي النظام، والثانية لأنها لم تنضم بالقدر الكافي إلى الثورة، فهو سيؤول في الحالتين إلى صراع أهلي أو إلى مدخل إليه، وإن أخذ شكلا سوريا خاصا هو صراع أغلبية ضد سلطة تمثل الأقليات الطائفية وتحتويها وتستخدمها، لا يستبعد إطلاقا أن يؤدي إلى ضياع الشعب والثورة والحرية، سواء انتصر مسلحو «المعارضة» أم جيش السلطة.
قبل سنة، كانت الثورة السورية روح الربيع العربي والثورة الشعبية المجتمعية المطالبة برد القرار إلى مواطن سوري مظلوم يجب أن ينال حريته كي يتمكن من إدارة شؤون وطنه وأموره الخاصة، وكانت استقلاليتها تعد بأن تصير مضرب الأمثال، وشجاعة وطهرية الشعب المنخرط فيها تذهل العالم، الذي يرى كيف تقاوم العين المخرز وتنتصر عليه وتحبط جهوده لهزيمتها أو وقف مسارها. واليوم، تبدو الأمور وكأنها تنضوي أكثر فأكثر في سياقات لا علاقة لها بربيع حريات، عربيا كان أم غير عربي، تتكون من صراعات وثارات داخلية مجافية للحرية والمدنية والمجتمعية، تتداخل وتتقاطع مع صراعات وثارات عربية تتولى إدارتها أطراف لم يكن لها علاقة بالأمس، ولا علاقة لها اليوم، ولن يكون لها علاقة غدا بالديمقراطية: مبدأ وفكرة ونظاما، وليس في خططها السماح بتحويل سوريا إلى دولة ديمقراطية، مثلما تتداخل وتتقاطع مع صراعات إقليمية تقوم حسابات أطرافها على اعتبارات مذهبية لا علاقة لها بالمحمدية أو بالأخلاق، وأخيرا صراعات دولية يعلم الله وحده أسرارها ومكنوناتها ونتائجها. اليوم، ينظر القسم الأكبر من شعب سوريا إلى ما يجري بعين الدهشة، بل بعين الشك والرعب وهو لا يصدق أن كل هذه النتائج يمكن أن تكون قد ترتبت على ثورته، التي اقتدى فيها بما فعله شعبا تونس ومصر، ألا وهو التخلص من نظام ظالم وبلوغ الحرية، ولم يكن يريد فتح أبواب الصراعات المتنوعة التي بدأت تؤطر ثورته وتحرفها عن مسارها، وتأخذها إلى حيث تتعين بصراع قوى خارجية لا علاقة له معها ولا يريد لها أن تقرر ما يريده لنفسه وبلاده، لمجرد أن النظام الحاكم فيها ورطه خلال العقود الأربعة الماضية في تشابكات ومشكلات لطالما رفضها واعتبر ثورته بوابة تحريره منها، فإذا بها تتفجر في وجهه وتحوله تدريجيا إلى ضحية لا تملك من أمرها الشيء الكثير.
يقف جميع المعنيين بالشأن الديمقراطي والسياسي السوري حائرين أمام هذا الانزياح المفزع، الذي يهمش تطالعاتهم ويقلص دورهم في وجودهم لصالح جوانب لا سيطرة لهم عليها، يؤدي اعتمادها إلى انشقاقهم وربما خسارة ما يراهنون عليه. ويبقى السؤال الذي يطرحونه على أنفسهم هو التالي: كيف يستعيدون رهان كسب الحرية بجهود شعبهم الواحد في ظل تصعيد الضغط العسكري – الحربي عليهم من قبل النظام، وما يقوم بإثارته من تحريض طائفي يشق المجتمع ويضع أطرافه بعضها في مواجهة بعضها الآخر؟ كيف يبقون على سلمية ثورة يريدونها لكل سوري، إن كان القتل مباحا في كل مكان ولكل إنسان ويمارس أكثر فأكثر على أسس طائفية؟ إلى هذا: كيف يستعيدون وحدة الشعب والمجتمع في شروط يتجه القتل فيها إلى جهات بعينها، لا يبقى معها وحدة مجتمعية أو رغبة في عيش مشترك؟ أخيرا، كيف يستعيدون قضيتهم من أيدي من ينتزعونها اليوم منهم، ويستخدمونها لغير الأغراض والمآرب التي حددوها هم لها، ولم يريدوها أن تكون جزءا من صراعات الآخرين عندهم وعليهم، بعد أن ملوا صراعات كهذه ودفعوا أثمانا فادحة لها، ولم يفد منها أحد غير النظام الذي فرضها عليهم؟ ويزيد من صعوبة الموقف أن العالم يتفرج وكأنه لا يرى ما يحدث، بينما يطلق تصريحات متكررة حول عزوفه عن التدخل العسكري، ويشتد الكبح المتبادل بين روسيا وأميركا، وتقدم مبادرات عربية ودولية تتحول إلى مناسبات لمزيد من قتل مفتوح وأعمى يتجول بحرية في مدن وقرى سوريا، في علامة أخرى على عزوف العالم عن فعل شيء أو عن عجزه أمام نظام يضع نفسه في موقع من يتحدى النظام الدولي القائم، ويجاهر بأنه على العالم القبول بما يجري والانسحاب من الأزمة السورية، أو الانخراط المباشر فيها كأزمة تختلط باقتتال أهلي ويتم حلها بالقوة في ظل شروط لا تشجع على التدخل، تتجسد في انقسام داخلي وعربي وإقليمي ودولي معطل.
كيف تستعيد الثورة رهاناتها الأولى وطابعها كثورة سلمية يقوم بها مجتمع واحد لصالح جميع أبنائه؟ وكيف تعاود إطلاق صرخاتها الأولى باسم مجتمعين مدني وأهلي يتعاهدان على دولة تنهض بالمواطنة والحرية والنهج المدني ووحدة الشعب والوطن وسلامة وأمن الدولة؟ وكيف تجعل العامل الداخلي، الذاتي، أكبر وأكثر تأثيرا وفعلا من العامل الخارجي، إقليميا كان هذا أم عربيا أم دوليا؟ أخيرا: كيف تنجو من لعب الطائفية والمذهبية والمال المسموم، وتسترد وحدتها واعتزازها بتواضع وأخلاق القائمين بها؟
أعتقد أن هذه هي الأسئلة التي يجب على الشعب والمعارضة إيجاد أجوبة واقعية، مقنعة وعملية، لها. هل أقول للمرة المليون إنها أسئلة لن نجد أية أجوبة حقيقية لها بغير العمل على بناء ميزان قوى لا يستطيع النظام كسره مهما طال الصراع واشتد؟ ولن يقوم هذا دون وحدة الشعب والمعارضة حول استراتيجية واضحة وبرامج تنفيذية تتكفل بتطبيقها المتدرج والمتصاعد، على أن ترسم بعقول السوريين ولصالحهم، بعيدا عن إرادات الآخرين ومقاصدهم الخاصة، إذا كانت لا تتفق مع مقاصد الثورة ومآربها، ولا تقبل أن تنضوي فيها وتمدها بالعون الذي يتطلب نجاحها كثورة سوريا عربية إنسانية هي جزء من ربيع تتفتح أزاهيره في المنطقة والعالم، لن يبقى شيء بعد نجاحه كما كان قبله.
ليست ثورة سوريا حزبية أو مذهبية، ولم ولن تكون من صنع حزب أو جماعة أو مذهب. إنها ثورة شعب ومجتمع وطنيين من أجل الحرية والكرامة والعدالة: الأهداف التي لن يقوى على انتزاعها أي حزب ولن تأتي بها أية جماعة ولن ينجزها أي مذهب بمفرده، ويتطلب تحقيقها أعلى قدر من الوحدة الوطنية. ولا بد أن نطلق صرخة إدانة للمذهبية والحزبية وأوهام الجماعات التي تريد تحريرنا رغما عنا، والتي ستقضي على فرص انتصار الشعب والثورة، وستطيح بتضحيات من قدموا أرواحهم فداء للحرية والكرامة والعدالة، وأرادوها ثورة سلمية، وصرخة استغاثة نطلقها قبل فوات الأوان، تقول: يا أحرار وثوار سوريا اتحدوا، إن ثورتكم في خطر!