“الأفكار لها اجنحة لا يستطيع احد ان يمنعها من ان تطير”
نهاية فيلم ” المصير” ليوسف شاهين
قلائل هم الفنانون الذين يسقطون وهم يعملون، ومن هؤلاء كان عملاق السينما العربية يوسف شاهين، الذي صرعه الموت، بعد غيبوبة دامت اكثر من 50 يوما، لم يصدق او يتمنى احد ان يتغلب الموت عليه. لكن جبروت الموت كان أقوى من عناد هذا العملاق، وتمنيات محبيه وتلامذته، فاذا به يستسلم بعد ان عاش 82 عاما قضى ما يقارب الستين عاما وهو يقدم العمل تلو الاخر، وكل عمل كان يفوق ما سبقه من اعمال، طارحا إشكاليات تثير نقاشات لا اول لها ولا آخر.
منذ عمله الاول، “بابا أمين “، اظهر بانه مخرج واعد وبداية عبقرية، فقد كان فيلمه هذا من اكثر الافلام مبيعا، ولقد شاهد الكثيرون منا افلام شاهين واستمتع بها دون ان يستشعر بعبقرية هذا المخرج، الا ان كان فيلم “الارض” حيث كانت النقلة النوعية وبداية عالمية يوسف شاهين، ناقلا تعلق الفلاح المصري بالارض الذي يسقيها من عرقه ومن دمه، وخاصة المناضلين منهم، نافيا بذلك المقولة التي تقول بخنوع الفلاح المصري للسلطة الاقطاعية وحلفاءها من المناضلين القدامى الذين تدينوا، وعبر السلطة الدينية كان حلفهم مع قوى السلطة السياسية المصرية المتحالفة مع قوى الاستعمار.
بعد الهزيمة الحزيرانية عام 1967، وقف شاهين مع الجماهير العربية الرافضة للهزيمة والمؤكدة على ضرورة مواصلة الحرب، فكان فيلمه “العصفور” ردا على اولئك المثقفين والسياسيين، الذين تنصلوا من مسؤوليتهم عن الهزيمة ليحملوها لرجل واحد هو الزعيم الراحل عبد الناصر. في “العصفور” اظهر شاهين بأن الجماهير العربية كانت اكثر وعيا من كل المثقفين العرب، فخرجت الى شوارع العالم العربي، رافعة شعار ” حنحارب حنحارب….” ومطالبة عبدالناصر بالعودة عن استقالته ومتابعة الحرب ومحاسبة المسؤولين الفعلين عن الهزيمة.
استمرت مسيرة شاهين الاخراجية، ليقدم افلاما تناقش مواضيع لم يتملك احد من قبله الشجاعة ان يتطرق اليها، حيث تجاوز التابوهات الدينية، لينقل في “المهاجر” اسطورة يوسف الحسن التوراتية، ليلمح بأن العلاقة التي كانت تربط يوسف الحسن بزوجة الوزير الفرعوني، لم تكن بالبراءة التي اشارة اليها الكتب الدينية سواء اليهودية منها او المسيحية او الاسلامية. حارب شاهين كل القوى التي حاربت فيلمه هذا، ليمنع في البداية، وليكسب بالقضاء حق عرض الفيلم في كل انحاء العالم.
اثر حوادث الحادي عشر من ايلول2001، وبدأ الحملة الغربية على الاسلام، بحجة محاربة الارهاب، ففي الوقت الذي وقف الكثير من المفكرين المسلمين متفرجين وخائفين من مواجهة هذه الحملة، وقف شاهين،وهو المسيحي، ضد هذه الحملة الظالمة على الاسلام في العديد من افلامه التي تلت تلك الحوادث،حيث شارك برؤية شجاعة عن هذه الحرب وحوادث 9/ 11، من خلال فيلم استكشات عن هذه الحوادث باسم “9/ 11″، وفيلم “الآخر”… حيث اظهر بأن العولمة كانت وراء الحرب الوهمية على الارهاب، اكثر من هذه الحوادث.
اما قمة افلامه فكان عام 1997 بفيلم ” المصير” الذي نال عليه الكثير من الجوائز، وحاربته القوى التكفيرية والقوى المحافظة في المجتمع العربي، وحاولوا منعه اسوة بفيلم ” المهاجر”، ولكن مصير هذه الهجمة على “المصير”، كان الاقبال الشديد على حضور هذا الفيلم، الذي لقى رواجا شرقا وغربا. في ” المصير” يعالج يوسف شاهين بتقنية عالية، نوعين من الفكر الديني وعلاقة السلطة السياسية بهذا الفكر، فمن جهة يقدم نموذجا للفكر الاسلامي التنويري، متجسدا بفكر ابن رشد، وهو فكر عقلاني عرفه الغرب، في مطلع عصر النهضة، يقابله فكر ديني متعصب يمثله الشيخ رياض، الذي ينشر بعد التحالف مع السلطة السياسية فكرا غيبيا ببغائيا، يساهم بنشر التعصب الديني الاعمى، وهو فكر تكفيري.
في النهاية ينتصر الفكر التنويري العقلاني على الفكر المتعصب، وكئن بشاهين اراد ان يثبت للغرب بانهم هم من اطلق ودعم الفكر التكفيري الذي جسده الشيخ عزام واسامة بن لادن وايمن الظواهري وعمر عبد الرحمن وغيرهم من المتطرفين الاسلاميين، ومصير هذا الفكر هو الهزيمة امام الفكر التنويري الذي يجسده فرج فودة وحامد ابو زيد وحسن حنفي وقبلهم رفاعة رافع الطهطاوي وعلي عبد الرازق والتنويرين الاسلاميين في القرن التاسع عشر والقرن العشرين.
انهى يوسف شاهين فيلمه المصير بعبارته الشهيرة ” الافكار لها اجنحة لا يستطيع احد ان يمنعها من ان تطير”، مؤكدا بذلك بأن الابداع يخلقه مناخ الحرية، وان الفكر مهما حاولت السلطة ان تقمعه فلا بد في النهاية ان ينتصر.
طوى الموت يوسف شاهين، ولكن اعماله التي خلدته حيا، ستخلده ايضا ميتا، ولسوف تستمر تخدم معركة التنوير والحداثة والحريات في الوطن العربي، ولابد ان يعرف الشرق والغرب بأن الفكر التنويري لابد ان ينتصرفي النهاية على الفكر التكفيري الذي ساهمت سلطة انور السادات بنشره، وبارك الغرب نشوء هذا الفكر ليستخدموه في حربهم الافغانية ضد السوفيات