في نهاية 2010 حرق البوعزيزي نفسه في أحد شوارع تونس، وكانت الشرارة الأولى لما سيتعارف على تسميته الربيع العربي، ليسقط الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، ويستمر هذا الربيع في 2011 مع ثورة 25 يناير في مصر، ليسقط معها الرئيس المصري حسني مبارك، ثم كانت ثورة ليبيا ليسقط معمر القذافي إثر حرب أهلية، لتنفجر في اليمن ويسقط علي عبد الله صالح، ويعاود الظهور بعد تحالفه مع الحوثيين؛ وتلته الثورة السورية ليتوقف الربيع العربي عندها، وكأن حلم سمير قصير بـ “إنّ ربيع العرب حين يزهر في بيروت إنما يعلن أوان الورد في دمشق”، أخذ يتحقق، ولكن لنكتشف بعد عشر سنوات أو أكثر بأن هذا الربيع لم يزهر في شوارع بيروت، ولا أورد في دمشق، بل كان الدم الذي سفك في بيروت بتفجير الشهيد سمير قصير، وكل شهداء الأرز قد أنهى هذا الحلم قبل أن يبدأ.
مع سمير قصير كلنا حلمنا عندما تساقط الرؤساء الواحد وراء الثاني، ليقف السقوط عند الرئيس السوري بشار الأسد، بأن الربيع العربي قد انفجر ومعه سيتحقق الحلم، ولكن حلمنا كان كابوساً مرعباً لا يزال مستمراً حتى يومنا هذا. ما سبب هذا الكابوس، الذي يطرح سؤالًا هو في حاجة إلى جواب: هل الربيع العربي انتحر أم نحر؟
الحقيقة تنطبق على كلا الحالتين على الربيع العربي، الذي في الحقيقة لم تكن بدايته مع البوعزيزي، فلقد شهدت المنطقة أكثر من ربيع، وكلها أيقظتنا على حقيقة مؤلمة بأن الربيع قد انتهى على واقع مؤلم. أغلب دول المنطقة شهدت أكثر من حركة، فعلى سبيل المثال لا الحصر سورية مثلاً، شهدت أكثر من حركة من أجل حريتها، فالإضراب العام الذي أعلنته النقابات المهنية عام 1980 في كل سورية فشل لسببين، الأول عدم وقوف التجار في دمشق مع هذا الإضراب، وثانيها محاولة حركة الإخوان المسلمين مصادرة هذا الحراك لتجيره لمصلحتها، يومها اهتز الحكم وفقد حافظ الأسد أعصابه، وأخذ يلقي الخطابات الواحد إثر الآخر، وكلها كانت تنم عن هستيريا تدل بأنه كان يعتقد أن ما بين سقوطه خطوة واحدة، فضرب الحراك بقبضة من حديد، وجاءت الاغتيالات التي كانت تنفذها الطليعة المقاتلة بقيادة عدنان عكلة، فرصة له للتخلص من خصومه السياسيين، من الإخوان المسلمين أكانوا أم من غيرهم من القوى المصنفة ديمقراطية، ووضعهم في السجون، بعدها دخلت المعارضة بأحزابها، التي بالأصل كانت ضعيفة، في غيبوبة نتيجة دخول العديد من رموزها في سجون النظام. وابتعد حلم الإصلاح، لأن حافظ الأسد بنى نظامًا لا يمكن إصلاحه، كما يقول جورج طرابيشي، إلا بإلغاء نفسه بنفسه، لأنه بناه على السلطة الأمنية، وأذرعها الأجهزة الأمنية.
ولو درسنا كل زهرة في هذا الربيع على حدة لاكتشفنا أسباباً مختلفة لهذا الفشل.
ثورة تونس كانون الأول/ ديسمبر 2010
تجربة تونس لم تفشل نسبياً، ولكنها لم تنجح، لأن القوى التي قامت الثورة ضدها عادت بشكل أو بآخر إلى السلطة، وفي أول انتخابات جرت في تونس استطاعت قيادات الحراك أن توصل بعض رموز المعارضة، ووصل إلى سدة الرئاسة المنصف المرزوقي، ولكن رافقته حركة النهضة الإسلامية، التي في الحقيقة كانت تحاول أن تتصدر هذا الحراك، ولا زالت حتى يومنا هذا تحاول أن تتصدر المشهد السياسي التونسي، تفشل أحياناً وتنجح أحياناً أخرى، وإن لم تشهد تونس حروباً أهلية، ولكنها مهددة كل دقيقة بمثل الحروب التي شهدتها جارتها ليبيا. صحيح أن نظام بن علي ذهب، ولكن لا زالت رموزه تتصدر المشهد السياسي، وتبقى هذه الديمقراطية الهيولية التي أنتجتها تونس إثر سقوط بن علي مهددة كل لحظة بالسقوط لأن العسكر متربص بها.
ثورة يناير 2011 في مصر.
انفجرت هذه الثورة في 25 يناير 2011، حيث تمركزت الجماهير المصرية في ساحة التحرير، وافترشوا هذه الساحة، ونصبوا الخيام والأكشاك التي كانت تبحث في الشأن السياسي المصري، وما هي الحلول لهذا المشهد في حال سقوط نظام الرئيس حسني مبارك. حاول الرئيس مبارك أن ينقذ نظامه ولكنه فشل، لتجري أول انتخابات رئاسية، فيتصدر هذه الانتخابات قوى الإخوان المسلمين بمرشحها الرئيس السابق محمد مرسي، والعسكر والنظام السابق بقيادة أحمد شفيق، وما يمكن أن نسميه نسبياً بالقوى الديمقراطية الناصرية متمثلة بحمدين صباحي، وكانت نتيجة هذه الانتخابات كالتالي: محمد مرسي بنسبة (24.78%) أحمد شفيق بنسبة (23.66%) وحمدين صباحي بنسبة (20.72%)، ليذهب الناس إلى الانتخابات أمام خيارين إما الإخوان المسلمين أو العسكر، اختار المصريون الإخوان المسلمين على العسكر، وأصبح الرئيس مرسي أول رئيس منتخب بشكل ديمقراطي، اختلفنا معه أم لم نختلف.
من يدرس هذه الانتخابات، يلاحظ أن الفارق بين المرشحين الثلاثة كان ضئيلاً، ولقد أدى المكون القبطي دوراً مهماً في تغيير النتيجة لمصلحة شفيق، فلو، ونحن نعرف أنه ليس هناك لو في السياسة والواقع السياسي، انتخب الاقباط وهم قوة مؤثرة في الانتخابات، حمدين صباحي لا أحمد شفيق، لوجدت الجماهير نفسها أمام خيارين الإخوان المسلمين أو القوى الديمقراطية الناصرية، وبذلك كان من الممكن أن تتغير النتيجة لمصلحة حمدين صباحي، ولكن خيارهم أحمد شفيق هو الذي أوصل الإخواني محمد مرسي إلى الرئاسة المصرية.
فترة رئاسة الرئيس المصري كانت قصيرة، وتراجع الإخوان المسلمون عن وعودهم بتشكيل حكومة وحدة وطنية، وعوضاً عن ذلك أخذوا يستعجلون الخطوات نحو أسلمة المؤسسات الحكومية، والتصرف بطريقة منفرة لكل القوى التي أسقطت نظام حسني مبارك. أخذت قوى الثورة المضادة تعمل بكل جهدها لإسقاط التجربة الديمقراطية المصرية الوليدة، فكان تحرك الشارع المطالب بإسقاط الإخوان المسلمين، والرئيس محمد مرسي، هنا جاء دور العسكر بقيادة الفريق عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع، وأخذ يتحرك لمنع الرئيس محمد مرسي من اتخاذ أي قرار ممكن أن ينقذ ما يمكن إنقاذه، عدت القوى الخارجية أن تحرك السيسي بمنزلة انقلاب عسكري، وهو في الحقيقة كذلك، ومن المؤسف أن الجماهير المصرية التي أسقطت العسكر في 25 يناير، أعادتهم إلى السلطة عن طريق إيصال الرئيس السيسي إلى السلطة، ليصبح رئيسًا مطلق الصلاحيات، يتصرف لا على أنه رئيس ديمقراطي بل ديكتاتور عسكري، وبعد حكمه للفترة الأولى التي يجيزها الدستور وهي أربع سنوات، أعيد انتخابه بعد أن منع كل المرشحين الممكنين من الترشح، حتى أحمد شفيق المرشح المحتمل لمواجهة عبد الفتاح السيسي، منع من دخول مصر، وأصبح الرئيس السيسي رئيسًا لفترة زمنية ثانية، ليعدل الدستور ويصبح السيسي رئيساً إلى الأبد.
مما لا شك فيه أن الرئيس عبد الفتاح السيسي ومن ورائه من قوى استفادت من أخطاء الإخوان المسلمين، وعملت على ألّا تقع فيها، ومن هنا نجحت قوى الثورة المضادة المصرية في نحر حركة 25 يناير 2011.
من هنا، فإن القوى التي أسقطت مبارك، هي التي نحرت ربيعها أولًا بانتخاب مرسي، ثانياً بإسقاط مرسي وانتخاب العسكر مرة
الثورة الليبية وسقوط القذافي
انتقل هشيم الثورة إلى ليبيا، ولم يستسلم الرئيس معمر القذافي لمحاولة إسقاطه، وأخذ يدفع الجماهير إلى التصدي لهذا الحراك الثوري، ولكن هذا الحراك أخذ يستعيد البلدة تلو الأخرى من يدي سلطة القذافي، وبمساعدة القوى الخارجية التي أرادت أن يسقط القذافي، وأن يبقوا سيطرتهم على آبار النفط الليبية المتدفقة. أخيرًا قاد الرئيس القذافي حرباً شرسة للاحتفاظ بسلطته، ولكنه فشل لينتهي بمقتله بعد أن حوصر في أنبوب مجار، وتم قتله مع مرافقيه، وأعوانه لتنتقل السلطة إلى المجلس الوطني الانتقالي برئاسة القاضي عبد الجليل، ولكن الخلافات على السلطة اشتدت، وخاصة بعد بروز ظاهرة العقيد حفتر الذي نصب نفسه خليفة للقذافي.
مع بروز ظاهرة داعش في المنطقة، شكلت القوى الإسلاموية قوى مضادة للحراك الثوري، لتدخل ليبيا في حرب أهلية طاحنة، ولا تزال هذه الحرب مستمرة رغم الهدوء النسبي والتدخلات الاجنبية التي أدت إلى وقف إطلاق النار بين السلطات المختلفة، ليتم التوصل بين مجمل فرقاء السلطات الليبية إلى اتفاق لتكوين سلطة انتقالية.
مثلما حدث في مصر نحر الحراك الليبي على يد القوى الإسلاموية، ولقد أراد حفتر أن يكرر تجربة السيسي في مصر، ولكنه فشل في ذلك، ولا تزال ليبيا غير مستقرة ومهددة بالعودة إلى القتال في لحظة انهيار الاتفاق المبرم بإشراف الأمم المتحدة.
الحراك الثوري اليمني في نيسان/ أبريل 2011.
عمت التظاهرات معظم المدن اليمنية تطالب بإسقاط حكم الرئيس اليمني محمد علي صالح، الذي كان أكثر الرؤساء اليمنيين حكمًا، فقد استمر حكمه منذ عام 1978، وواجه الرئيس اليمني هذه التظاهرات بتظاهرات مضادة ذات طابع قبلي، وتميزت بداية التظاهرات بالسلمية، ومشاركة المرأة اليمنية لأول مرة بهذه التظاهرات، ثم أخذت طابعًا عنفياً بعد أن تحالف الرئيس اليمني مع حركة عصائب الله المعروفة باسم الحوثيين، وهي الحركة المتحالفة مع إيران، وتدخلت القوات الخليجية في الحرب اليمنية، ولا زالت مستمرة ضد الحركة الحوثية، التي بدورها وبناءً على توجيهات إيران، قبلت مشاركة حزب الله اللبناني، لتتحول هذه الحرب إلى حرب سنية – شيعية، ولازالت هذه الحرب مستمرة حتى يومنا هذا، ولا أحد يدري متى ستنتهي. هنا انتحرت هذه الوردة من ورود الربيع العربي أيضاً بطلبها التدخل الخارجي الذي قام بنحرها ولا زال ينحرها.
لبنان والربيع العربي
الثالث عشر من نيسان 1975، دخل لبنان حرباً أهلية بين القوى المناهضة للوجود الفلسطيني في لبنان، وجمع كل القوى الرافضة لاتفاق القاهرة، الذي ينظم الوجود الفلسطيني المسلح في المخيمات، ولكن الفلسطينيين بعد حادثة البوسطة في عين الرمانة، تمددوا في كل المنطقة المتعارف على تسميتها ببيروت الغربية، لأن العاصمة اللبنانية انقسمت إلى شرقية ذات الأغلبية المسيحية، وغربية ذات الأغلبية الإسلامية شيعية كانت أم سنية، واستمرت هذه الحرب على كل الأراضي اللبنانية، بين المسيحيين الذين شعروا بأنهم مستهدفون من الوجود الفلسطيني المسلح، وتخوفهم من توطين الفلسطينيين من جهة، والمسلمين الداعمين لهذا الوجود من جهة أخرى، ليصل الأمر إلى دخول القوات السورية إلى لبنان لتكون قوات ردع، غير أنها تحولت في الحقيقة إلى قوات احتلال، تمارس كل موبقات قوات الاحتلال بل أكثر. استمر الوجود السوري حتى عام 2005، يوم اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الشهيد رفيق الحريري، الذي أشعل ثورة الأرز، بقيادة القوى التي سيتعارف عليها بقوى الرابع عشر من أذار، وكانت تظاهرة الرابع عشر من آذار هي تلك الثورة، وذاك الربيع الذي تحدث عنه الشهيد سمير قصير، على إثر هذه التظاهرة خرج جيش الاحتلال السوري من بيروت وضواحيها للتموضع في البقاع، وتتخذ القيادة السورية قراراً بالانسحاب من لبنان نهائياً إلى عمق الأراضي السورية، ولكن القوى المضادة لثورة الأرز هذه، أطلت برأسها في مظاهر عديدة، وكان الاغتيال السياسي هو ما ميز عام 2005، حيث سقط كل من سمير قصير، وجورج حاوي، وبيار الجميل لينتهي العام بالاغتيال البشع لصاحب القسم الشهير، الشهيد جبران تويني وقسمه هو، “نقسم بالله العظيم، مسلمين ومسيحيين، أن نبقى موحدين إلى أبد الآبدين، دفاعاً عن لبنان العظيم”، الذي أطلقه خاتمًا به تظاهرة ثورة الأرز، جاء موحداً للشعب اللبناني الذي يصر على منع قيام الحرب الأهلية من جديد. بعدها بعام توج السيد حسن نصرالله ثورته المضادة، بإيعاز من الولي الفقيه، بتظاهرة الثامن من شباط 2006، حيث تجمعت كل القوى المعادية للربيع اللبناني في تظاهرة شكراً سورية، لتفرز ما سيتعارف عليه بقوى الثامن من أذار، بالطبع لم تكن القوى متكافئة، فربيعيّو ثورة الأرز كانوا مسلحين بإيمانهم بحرية لبنان ووحدته الوطنية، وقوى الثورة المضادة كانوا مسلحين بقوة سلاح حزب الله وموالين لسورية وإيران. نحرت الاغتيالات السياسية بكل مشاربها، ربيع لبنان، ليدخل لبنان في دوامة بقايا شبه حرب أهلية، يديرها حزب الله اللبناني.
الربيع السوري آذار/ مارس 2011
تركنا الربيع السوري حتى النهاية، نظراً لأهميته في قلب المنطقة، وفي الحقيقة شهدت سورية أكثر من ربيع، ولن نعود إلى الربيع السوري الذي تحدثنا عنه في ما سبق، أيام الرئيس حافظ الأسد، ولكن سنتحدث عن الربيع الثاني الذي جاء بعد خطاب القسم، الذي استبشر به السوريون، ولكنه في الحقيقة كان ربيعاً قصيراً وانحصر بالمثقفين، الذين أخذوا يشكلوا المنتديات الثقافية، ولكن بقيت هذه المنتديات محصورة بفئة المثقفين، ولم تصل إلى عامة الناس، ولكن النظام وحرسه القديم كان لهذه المنتديات بالمرصاد، وهذا الحرس القديم كان مؤلفاً من القوى السياسية التي ساندت حافظ الأسد في حكم سورية، ومعها الأجهزة الأمنية التي بنى عليها حافظ الأسد حكمه، وهي قوى رافضة بالطبع لأي إصلاح. قتل ربيع دمشق الأول وزهوره براعم، فقتلته الثورة المضادة التي أدخلت أحرار هذا الربيع إلى السجون، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، الدكتور عارف دليلة، والمحامي حبيب عيسى، والمفكر السوري الراحل ميشيل كيلو وغيرهم عديد من المثقفين والسياسيين، الذي لا مجال لذكرهم لأنهم كثر.
شهدت سورية في 2005 شبه ربيع حيث كان إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي، ولكنه استمر حتى بعد وضع قيادته في السجون، لأن القوى المضادة للثورة كانت رافضة لأي عملية إصلاح طرحها الإعلان، ومن المؤسف أن نقول إنه بعد الثورة السورية2011، لم يستطع هذا الإعلان أن يشكل قيادة لهذه الثورة، رغم تعويل قوى ديمقراطية عديدة عليه.
عندما انطلق الربيع العربي من تونس، لتليه مصر وليبيا أخذت الناس في سورية تحبس أنفاسها بانتظار حراك ما، وكان رأس النظام السوري يعربد بأن سورية غير تلك الدول، فكانت تظاهرة الحريقة في الثامن عشر من شباط/ فبراير التي كان شعارها “الشعب السوري ما بينذل”، وكانت الشرارة الثانية شرارة أطفال درعا الذين كتبوا على جدران مدارسهم “الشعب يريد إسقاط النظام”، ولكن أجهزة النظام الأمنية، كانت لهم ولأهاليهم بالمرصاد، فقمعت التظاهرات التي خرجت مطالبة بإطلاق سراح أطفالهم، وأطلق الرصاص الحي على المتظاهرين، ليسقط بعض القتلى الذي سيكون استشهادهم هو بداية الثورة السورية التي يسميها بعضهم ثورة، وبعضهم حراكاً، وآخرون فورة وغيرهم انفجاراً إلخ… من التسميات، التي تنطبق كلها على هذه الثورة التي كانت في الحقيقة ثورة سلمية شملت المدن والقرى السورية كلها، وكان شعارها في البداية المطالبة بالإصلاح السياسي، والاقتصادي، والتعليمي، وإطلاق الحريات العامة، ولكن النظام لم يتقبل هذه الشعارات، فقابلها بتظاهرات مؤيدة سماها المزورون بالتظاهرات المليونية. تكاثرت التظاهرات ودخلت على الخط السفارات وخاصة الفرنسية منها والأميركية، ولنا في جولات السفير الأميركي فورد خير دليل على بداية التدخلات.
انتقل النظام إلى الخطوة التالية، وهي إطلاق المساجين الإسلاميين من نزلاء سجن عدرا، عبر مراسيم العفو العام الذي كان يصدرها، وكان يدخل عوضاً عنهم الأحرار من السوريين الثائرين، حتى غصت بهم السجون، وكانت التهمة الجديدة، بعد إلغاء قانون الطوارئ الذي أعلن صبيحة الثامن من آذار/ مارس 2011، جاهزة ألا وهي “الإرهاب” ومحكمتها التي لا ترحم أحداً دون التمييز بين البريء وغير البريء، لأننا لا نستطيع الحكم على المساجين الذي مات العديد منهم تحت التعذيب.
عسكرت الثورة في البداية، وتم أسلمتها في النهاية، لتنطلق ظواهر الحركات والتنظيمات الإسلاموية، لتوصلنا إلى الدولة الإسلامية في العراق والشام التي ستعرف بداعش، والتي سيطرت على العراق وبلاد الشام، دفعة واحدة، وتنطلق الحرب ضد الإرهاب، وهي الحرب التي لها بداية وليست لها نهاية.
لن ندخل في تاريخ سورية خلال هذه السنوات العشر، لأنه يلزمها كثير من الصفحات، وسيكتب هذه الصفحات التاريخ الذي لا يرحم، ولن يرحم ما حدث في سورية، التي تمزقت بين الدول الاستعمارية، والعصابات الطائفية والدينية.
ملخص ما تقدم، فإن الربيع العربي نُحر أكثر من كونه انتحر؛ فلو عدنا إلى العنوان الذي اخترناه “هل الربيع العربي نحر أم انتحر”، الحقيقة المرة أن كلا الحالتين تنطبق على هذا الربيع الذي غرق بدم الأبرياء من شعوب المنطقة، عوضاً عن أن يغرقها بورود الحرية والكرامة التي بشرها بها الشهيد سمير القصير.
انتحر الربيع العربي لأن من تصدى لقيادته لم يكونوا أهلاً لذلك، فهذه القوى التي سمت نفسها بالمعارضة الداخلية منها والخارجية تفاجأت مثل الجميع بهذا الربيع، فأرادت أن تركب موجة هذا الربيع محاولة أن تجيره لمصلحتها، ولكن عوضاً عن أن تقوده، دفعته إلى أحضان القوى المتربصة بهذا الربيع، من الدول العظمى التي ليس من مصلحتها أن يزهر هذا الربيع، لأنه ليس من مصلحتها أن تزهر الحريات والديمقراطية في المنطقة قاطبة.
أحد أسباب انتحار هذا الربيع، كان عدم وجود قيادات متفاعلة ومتحدة مع التحركات، وذلك بسبب كون الاستبداد، وهو السمة التي جمعت بين كل البلدان الثائرة، لم يستسلم، وكأنه خرج من الباب ليعود بشكل آخر من الشباك، من هنا جاءت سهولة نحره، لأن كل زهرة كانت تغني على ليلاها، ولم تستطع أن تتوحد لتردف الواحدة الأخرى، ما سهل على قوى الثورة المضادة ضرب هذه الحركات ثم نحرها.
الاعتماد على الخارج كان سبباً من أسباب النحر لهذا الربيع أيضاً، فلم يفهم هؤلاء السياسيون، أو القيادات المعتمدة على الخارج، بأن الخارج لا يهمه ما يجري في الداخل، فهو له مصالحه وتكويناته المناهضة لكل شعارات الديمقراطية والحرية والكرامة التي ترفضها هذه الدول. كتب جورج غانم في دراسته لشخصية الراحل الكبير كمال جنبلاط، بأن هذا الأخير حدثه بأن أحد الوزراء التوانسة قال لكمال جنبلاط، أنت في المكان الغلط، أنت تطلب الدعم من الدول التي بالأصل هي ضد طروحاتك. أنت تطالب بالاشتراكية والعدالة الاجتماعية، وكذلك إرساء الديمقراطية، وهم بالأصل ضد هذه الطروحات، عد إلى بلدك واعتمد الداخل. فهم كمال جنبلاط الدرس، ولكن المحتل الأسدي للبنان سرع في موته ليتم اغتياله ومشروعه في السادس عشر من عام 1967.
تدخُل الحركات الإسلاموية في كل الحركات، من النهضة إلى الإخوان المسلمين إلى المتطرفين من القاعدة والنصرة وداعش والحشد الشعبي وحزب الله، وكل هذه الحركات وغيرها، أدت إلى نحر هذه الثورات لأنها بطشت بقيادة هذه الحركات، وأخافت الناس الذين ثاروا في فترات متقطعة هنا أو هناك. وهذه الحركات ليست مقبولة من قبل أغلبية السكان الذي يرغبون بأن يصلوا إلى دولة المواطنة حيث تتساوى الحقوق والواجبات.
القوى الديمقراطية مسؤولة عن هذا النحر أيضاً، لأنها مع الأسف بقيت ضمن قوالبها الجامدة، ولم تستطع أيديولوجيتها غير المتطورة، أن تفرز سياسة واقعية يتقبلها الحراك، بل بقيت في الترف الفكري الذي لا يهم كثيراً من الجماهير وأغلبية الناس. لم تستطع هذه القوى أن تتوحد ضمن تيار ديمقراطي، يضع خطة أو برنامجاً لما بعد سقوط النظام، فالثورة الحقيقية تبدأ بعد سقوط النظام، وليس قبله. لم نر أي من القوى في داخل سورية أو خارجها قدمت تصوراً واقعياً لمفهوم الدولة الوطنية الديموقراطية، لتقدمه للجماهير.
نعم سيبقى سؤال “هل الربيع العربي نُحر أم انتحر” معلقاً، لأن الإجابة عنه يلزمها دراسات عديدة، وكثير من التمحيص والتوثيق.