اثنا عشر عاماً مضت من تاريخ ثورة الشعب السوري، الذي رفع صوته عالياً قائلاً: “الشعب السوري ما بينذل“، ليكمله أطفال درعا، على جدران مدارسهم، بشعار “الشعب يريد إسقاط النظام”، وذلك في محاولة للالتحاق بركب الربيع العربي، الذي أجهض من قِبَل من كان من المفترض أن يحموا هذا الربيع، لكن الهرطقات والنرجسيات والتصرفات غير الواعية وغير المسؤولة أدت إلى تغييب الثوار الحقيقيين. فمن المسؤول عمّا حدث؟
قبل أن نجيب ونتحدث عن المسؤول، علينا أن نتساءل: هل فشلت الثورة السورية؟ وكيف؟ ولماذا؟ الحقيقة أن الثورة السورية لم تفشل، بل لا تزال مشتعلة هنا وهناك. ومن يدرس تاريخ الثورات يعرف جيداً أن أية ثورة لم تنتصر من أول وهلة. ولن نعود إلى ثورة سبارتكوس، بل إلى القرن الثامن عشر والثورة الفرنسية، التي استغرقت أكثر من مئة عام حتى انتصرت. وأيضاً الثورة البلشفية أو ثورة 1917 لم تنجح منذ أول وهلة؛ فقد سبقها العديد من الثورات والانتفاضات الدموية، على عكس الثورة السورية التي بدأت سلمية.
الثورة ليست وليدة اليوم، فقد شهدت قبلها تحرك العام 1980 من القرن الماضي، حيث فشل تحرك جماعة الإخوان المسلمين وطلائعها المقاتلة، وكان هناك الإضراب العام الذي أعلنته النقابات المهنية (محامين، أطباء، محاسبين قانونيين، طلبة الجامعات، مهندسين، إلخ). وقد شهدت جميع المحافظات السورية تظاهرات، ولو شاركت البرجوازية الدمشقية في الإضراب لكان نظام الأسد الأب قد انتهى. فشل الحراك، ودخل العديد من المناضلين إلى سجون حافظ الأسد، لكن بعضهم ظل خارج السجون، بينما غادر آخرون البلاد.
نعود إلى سؤال من المسؤول عن انتكاسة الثورة السورية، وأقول “انتكاسة” وليس “فشل”. أول المسؤولين هي تلك القوى التي تصدرت قيادة الثورة، من أول مؤتمر عُقِد في أنطاليا، وصولاً إلى المجلس الوطني الأول والثاني. وقد ظُلم كلٌّ من رئيسَي هذا المجلس، الدكتور برهان غليون والدكتور عبد الباسط سيدا، ثم ذاب هذا المجلس في الائتلاف السوري، الذي لم يختلف هيكلياً عن المجلس الوطني للثورة السورية. ولو كان تم تعديل هذه الهيكلية وإبعاد القوى التي سببت لاحقاً تمزيق الثورة السورية – وهي قوى غير إسلاموية تولت المناصب العليا في الائتلاف والحكومة المؤقتة – لكان الوضع مختلفاً، حيث إنها شكلت عائقاً أمام تقدم القوى الديمقراطية الواعية.
السبب الثاني للانتكاسة هو فشل الأحزاب السياسية في التشكل، وكما يقول الراحل جورج طرابيشي، “لا ديمقراطية بلا أحزاب، وتبقى الديمقراطية ناقصة.” لم تفشل هذه القوى فقط في تكوين أحزاب تقود المرحلة، بل تمزقت الأحزاب القائمة التي كانت في الأصل مترهلة، وسقطت عند أول ضربة. ولم تستطع تقديم تصور موضوعي، كما لم تُجرِ أية منظمة أو تنظيم نقداً ذاتياً لما لها وما عليها، بل استمروا دون تغيير.
السبب الثالث للانتكاسة هو هيمنة التيار الإسلاموي على قيادة الانتفاضة. بعد أن أخرجهم النظام من السجون وسهّل لهم التسلح، أصبحت الثورة ذات طابع ديني مسلح، وتشكلت الفصائل ذات التسميات المختلفة ذات الطابع الطائفي.
السبب الرابع هو صعود التطرف الطائفي، من الجانبين السني والشيعي، حيث أدى الجانب السني إلى ظهور داعش وفصائل مشابهة، بينما أدخل الجانب الشيعي ميليشيات كحزب الله والحشد الشعبي، والزينبيون والفاطميون وغيرهم، مما زاد من تعقيد المشهد الطائفي.
السبب الخامس هو صعود التطرف القومي الكردي، حيث ظهرت ما يُعرف بقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، والتي لا ديمقراطية فيها ولا تمثل سوريا؛ فهي نتاج أيديولوجي مرتبط بجبال قنديل، مما أدى إلى تصعيد التطرف الكردي، لا سيما بعد دخولهم الرقة ورفعهم صور عبد الله أوجلان، دون صلة حقيقية بالثورة السورية. بل هم بندقية للإيجار يرتبطون بحزب العمال الكردستاني التركي، ويحميهم الأمريكيون الذين قد يتخلون عنهم كما حدث في مهاباد.
لم يقدم من ادّعوا الثورة أي تصور بديل للنظام، الذي اتفق الجميع على فساده واستبداده. ولم ينجحوا في جذب اهتمام الدول. ففي بدايات الثورة، كانت هناك العديد من الدول “الصديقة لسوريا”، لكنها تراجعت حتى أصبحت لا شيء، وحتى الدول الخليجية التي طبّعت مع إسرائيل تطبّع الآن مع النظام، الواحدة تلو الأخرى. وحتى الغرب الذي يرفض حتى الآن التطبيع مع النظام ما لم يقدم الأخير ثمنه.
نحن من تسببنا في انتكاسة الثورة، لكن الأوان لم يفت. إن انتكسنا مرة، فإن الشعب السوري الذي انتفض مرة قادر على أن ينتفض مرات عديدة حتى تحقيق الدولة الديمقراطية السورية، دولة المواطنة، كما دعا إليها المطران المغيّب يوحنا إبراهيم.
نشرت هذه المقالة في العدد 1519 بتاريخ 29 آذار من جريدة العرب التي تصدر في لوس أنجلوس عام 2023.