المشروع القومي العربي يجب أن يقترن وبكل وضوح بمفهومين أساسيين : الديمقراطية والنهضة . وهذا ما غاب عن معظم التيارات القومية منذ الخمسينات من القرن الماضي، وحل محلهما ” شعارات” خطفت البريق وعواطف الجماهير مثل ” الوحدة العربية ” و ” مقارعة الاستعمار ” و “الاشتراكية ” .
التجزئة والثورة المنهوبة والأرض المحتلة وغيرها من (البلاوي) لم تمنع اليابان التي خرجت من الحرب العالمية الثانية محتلة، ومدمرة بقنبلتين نوويتين وجيش ينتحر لأنه هزم، من النهوض من خلال برنامج سياسي ديمقراطي مدني، رغم وجود الإمبراطور والعائلة المقدسة، وتنامت القومية اليابانية وقويت ويمكن ان تلاحظها كل يوم في اليابان
كما أن التجزئة والثروة المنهوبة والأرض المحتلة وغيرها كثير لم تمنع ألمانيا من النهوض والتقدم لتصبح احد أريع دول أولى في العالم، وكان الرافعة لذلك برنامج سياسي اقتصادي سمي آنذاك (بالمعجزة الألمانية)، وتنامت القومية الألمانية وأصبحت شبه شوفينية وتوحدت مرة ثانية .
الفارق أن النخبة العربية وغيرها من النخب الغربية لم تمتلك الحس النهضوي، لأن النخبة العربية في الأساس لاتمتلك الشعور بالحاجة إلى النهضة بل اكتفت بالعمل من على : السطح ” دون أن تمس العمق .
يمكن أن تقول أن كلا الدولتين لا تمتلك البنية الفسيفسائية التي يمتلكها الوضع العربي، لذلك خذ مثل سويسرا التي يعيش فيها ثلاث قوميات مختلفة اللغة، أو بلجيكا أو حتى ماليزيا .
النخبة العربية، بسبب عدم امتلاكها للحسين الديمقراطي والنهضوي بمعناهما الشامل والمتكامل، انحدرت لتكون ” جماهير ” الأنظمة العسكرية التوتاليتارية المتأخرة والجاهلة . وشكلت كما قلت أنت غطاء سياسيا يبرر تعسفها وفجورها ولنصوصيتها .
الاشتراكية … الوحدة العربية …. مقاومة الاستعمار … استعادة الثروة النفطية المنهوبة .. تحرير فلسطين أو جزء منها .. كل هذا، باعتقادي، لن يشكل الرافعة للمشروع القومي العربي الديمقراطي والنهضوي بل يجب أن يستند إلى مفاهيم جديدة تقطع مع الماضي بكل مآسية والتي لازلنا نعيشها حتى اليوم ومن المفاهيم الدينية والعشائرية والقبلية والمناطقية .
ليس من المطلوب اليوم ان تأخذ النخبة السياسية السورية “حسن السلوك ” بادعائها أنها تناضل ضد الامبريالية والصهيونية والرجعية وتعمل من أجل الوحدة العربية وتحرير فلسطين واستعادة الأراضي المحتلة وأنها مع المقاومة في كل مكان . المطلوب أن تكون قادرة أن تحفر في الواقع السوري .
الاستعمار فكرة أزلية : الشعوب العربية استعمرت شعوب أخري
اليابان استعمرت كوريا 25 سنة وتعتبر أكثر أنواع الاستعمار قساوة ووحشية فقد عاش الشعب الكوري هذه المدة في الكهوف في الجبال يتغذى على أوراق نبات السمسم والحشائش .
- ألمانيا احتلت واستعمرت
- البرتغال احتلت واستعمرت
- فرنسا احتلت واستعمرت
- اسبانيا احتلت واستعمرت وغيرها كثير
ولكنها لم تتوقف عن النمو والتقدم .
للأسف نحن نطالب ببديهيات الآخرين: حرية الرأي والتعبير والمعتقد والتنظيم والانتماء السياسي أو الفكري؛ فصل السلطات : وكلهذا كان غائبا عنا منذ خمسينات القرن الماضي، بل كانت مفاهيم مرفوضة إلى حد كبير والدليل ما مارسه المشروع القومي العربي ولا زال حتى اليوم يمارس من قبل أيتامه .
في النهضة تتحقق العلمانية، ولم يمنع وجود أغلبية مسيحية في أوروبا من تحقيقها، ولا الأكثرية البوذية في اليابان وكذلك الأكثرية الهندوسية في الهند أو الأكثرية المسلمة في ماليزيا .
في النهضة تتحقق حقوق المرأة لأنها فعل يومي لازم .
إنني اعتقد ان قضية فلسطين وتحرير الأراضي يجب ألا يعوقا أو يؤخرا المشروع الديمقراطي النهضوي للنخبة العربي، لقد انتظرت فلسطين عقود وانتظرت الأراضي المحتلة عقود ولا أجد مانعا من أن ينتظرا عقودا أخرى لأن المسألة غير مطروحة الآن بالنسبة لي. احتلال الأراضي والنقر على وتره يجب ألا نفسح لتنامي العسكرتاريا وبحجة تحرير فلسطين يرتهن الاقتصاد والثقافة والوعي لمسألة أصبحت بعد 6 عقود ونيف بحاجة إلى إعادة نظر ؟؟
أعتقد أن مستحاثات الفترة السابقة ستنتهي عند سقوط الأنظمة الاستبدادية حيث لن تجد من يستمع إليها، كما أن الأفكار التي يطرحها التيار الديني الذي تصدى للسلطة في بعض الدول التي شهدت التغيير، ستفلس أمام حجم المهام، ولكن إفلاسها سيكون رهناً ببلورة التيار الوطني في كل بلد، ولا أعتقد أن فكرة بلورة تيار نهضوي عربي عام ممكنة في المدى المنظور ما لم تنجح مصر وتونس وسورية في ذلك بسبب من تأثيرات الجيوسياسية للدول الثلاثة في المنطقة، ومن هنا فإنني أرى أن الغرب عموماً وأمريكا خصوصاً ليسوا في عجلة من أمرهم للمساعدة في بناء دول ديمقراطية نهضوية مدنية تعددية، فهم يتذكرون جيداً فترة النهوض في الخمسينات وبداية الستينات التي أنتجت للأسف أنظمة شمولية عسكرية ديكتاتورية تحت شعارات قومية تحررية. هذا جانب والجانب الآخر الروسي – الصيني – الإيراني يعملون بجهد وتصميم أكبر من الغرب وأمريكا على بقاء الأوضاع المأساوية كما هي .
المشروع النهضوي الديمقراطي سيأخذ وقته .
كما أعتقد أن تكرار التجربة التجربة التركية الماليزية للإسلام المعتدل لن تتكرر في تونس ومصر بسبب أن المشروع في تجربة تركيا هو العامل الاقتصادي الذي جعل الحياة أكثر رخاءً وليس أكثر جهادية، وتحسن دخل الفرد ونمو الاقتصاد بشكل كبير ومؤثر، وهذا لن يتكرر في تونس ومصر بسبب الوعي وصفات المشروعين اللذين بدأت بوادرهما في الظهور من خلال بعض الإجراءات .
مصالحة التيار الديمقراطي مع التيار الإسلامي يعني العمل على نجاح البرنامج ونقاطه وهو الأساس .
بقيت نقطة واحدة هامة وهي: أعتقد أن الشكل الراهن للمؤتمر القومي العربي أصبح بالياً من كثرة استعماله من قبل الأنظمة والمستحاثات السياسية.
ما جرى في الوطن العربي أفرز الكثير من الظواهر الإيجابية، ولكن بسبب من القصور السياسي عند النخبة السياسية فإننا نلاحظ توزع المستحاثات والميول والاتجاهات، وكذلك إمكانيات لعب الأنظمة العريقة في التلاعب بها، إضافة للعامل الديني الذي يبدو لي أن لا أفق سياسي له فهو يتخبط امام الوقائع على الأرض ، لذا فإن المشروع يجب أن يوجه إلى النخب الجديدة ومن التحق من النخب القديمة بموجبات التغيير.
دمشق 25 / 9 / 2012